فصل: النوع الثاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر **


  أقسام المجاز

والذي انكشف لي بالنظر الصحيح أن المجاز ينقسم قسمين‏:‏ توسع في الكلام وتشبيه والتشبيه ضربان‏:‏ تشبيه تام وتشبيه محذوف فالتشبيه التام‏:‏ أن يذكر المشبه والمشبه به والتشبيه المحذوف‏:‏ أن يذكر المشبه به ويسمى استعارة وهذا الاسم وضع للفرق بينه وبين التشبيه التام وإلا فكلاهما يجوز أن يطلق عليه اسم التشبيه ويجوز أن يطلق عليه اسم الاستعارة لاشتراكهما في المعنى وأما التوسع فإنه يذكر للتصرف في اللغة لا لفائدة أخرى وإن شئت قلت‏:‏ إن المجاز ينقسم إلى‏:‏ توسع في الكلام وتشبيه واستعارة ولا يخرج عن أحد هذه الأقسام الثلاثة فأيها وجد كان مجازاً ‏,‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن التوسع شامل لهذه الأقسام الثلاثة لأن الخروج من الحقيقة إلى المجاز اتساع في الاستعمال‏.‏

قلت في الجواب‏:‏ إن التوسع في التشبيه والاستعارة جاء ضمناً وتبعاً وإن لم يكن هو السبب الموجب لاستعالهما وأما القسم الآخر الذي هو لا تشبيه ولا استعارة فإن النسب في استعماله هو طلب التوسع لا غير وبيان ذلك أنه قد ثبت أن المجاز فرع عن الحقيقة وأن الحقيقة هي الأصل وإنما يعدل عن الأصل إلى الفرع لسبب اقتضاه وذلك السبب الذي يعدل فيه عن الحقيقة إلى المجاز إما أن يكون لمشاركة بين المنقول إليه في وصف من الأوصاف وإما أن يكون لغير مشاركة فإن كان لمشاركة‏:‏ فإما أن يذكر المنقول والمنقول إليه معاً وإما أن يذكر المنقول إليه دون المنقول فإن ذكر المنقول والمنقول إليه معاً كان ذلك تشبيهاً والتشبيه تشبيهان‏:‏ تشبيه مظهر الأداة كقولنا‏:‏ زيد كالأسد وتشبيه مضمر الأداة كقولنا زيد أسد وهذا التشبيه مضمر الأداة وقد خلطه قوم بالاستعارة ولم يفرقوا بينهما وذلك خطأ محض‏.‏

وسأوضح وجه الخطأ فيه وأحقق القول في الفرق بينهما تحقيقاً جلياً فأقول‏:‏ أما التشبيه المظهر الأداة فلا حاجة بنا إلى ذكره ههنا لأنه معلوم لا خلاف فيه لكن نذكر التشبيه المضمر الأداة الذي وقع فيه الخلاف فنقول‏:‏ إذا ذكر المنقول والمنقول إليه على أن تشبيه مضمر الأداة قيل فيه‏:‏ زيد أسد أي كالأسد فأداة التشبيه فيه مضمرة وإذا أظهرت حسن ظهورها ولم تقدح في الكلام الذي أظهرت فيه ولا تزيل عنه فصاحة ولا بلاغة وهذا بخلاف ما إذا ذكر المنقول إليه دون المنقول فإنه لا يحسن فيه ظهور أداة التشبيه ومتى أظهرت أزالت عن ذلك الكلام ما كان متصفاً به من جنس فصاحة وبلاغة وهذا هو الاستعارة ولنضرب لك مثالاً نوضحه فنقول‏:‏ قد ورد هذا البيت لبعض الشعراء وهو‏:‏ فرعاء إن نهضت لحاجتها عجل القضيب وأبطأ الدعص وهذا قد ذكر فيه المنقول إليه دون المنقول لأن تقديره عجل قد كالقضيب وأبطأ ردفٌ كالدعص وبين إيراده على هذا التقدير وبين إيراده على هيئته في البيت بونٌ بعيد في الحسن والملاحة والفرق إذاً أن التشبيه المضمر الأداة بحسن إظهار أداة التشبيه فيه والاستعارة لا يحسن ذلك فيها وعلى هذا فإن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له الذي هو المنقول إليه ويكتفي بذكر المستعار الذي هو المنقول‏.‏

فإن قيل‏:‏ لا نسلم أن الفرق بين التشبيه وبين الاستعارة ما ذهبت إليه بل الفرق بينهما أن التشبيه إنما يكون بأداته كالكاف وكأن وما جرى مجراهما فما لم يظهر فيه أداة التشبيه لا يكون تشبيهاً وإنما يكون استعارة فإذا قلنا‏:‏ زيد أسد كان ذلك استعارة وإذا قلنا زيد كالأسد كان ذلك تشبيهاً‏.‏

قلت في الجواب عن ذلك‏:‏ إذا لم نجعل قولنا ‏"‏ زيد أسد ‏"‏ تشبيهاً مضمر الأداء استحال المعنى لأن زيداً ليس أسداً وإنما هو كالأسد في شجاعته فأداة التشبيه تقدر ههنا ضرورة كي لا يستحيل المعنى‏.‏

فإن قيل وكذلك أيضاً إذا لم تقدر أداة التشبيه في الاستعارة استحال المعنى لأنا إذا قلنا ‏"‏ عجل القضيب وأبطأ الدعص ‏"‏ فما لم نقدر فيه أداة التشبيه وإلا استحال المعنى‏.‏

قلت في الجواب عن ذلك‏:‏ تقديره أداة التشبيه لا بد منه في الموضعين لكن يحسن إظهارها في التشبيه دون الاستعارة وجملة الأمر أنا نرى أداة التشبيه بحسن إظهارها في موضع دون موضع فعلمنا أن الموضع الذي يحسن إظهارها فيه غير الموضع الذي لا يحسن إظهارها فيه فسمينا المواضع الذي يحسن إظهارها فيه تشبيهاً مضمر الأداء والذي لا يحسن إظهارها فيه استعارة وإنما فعلنا ذلك لأن تسمية ما يحسن إظهار أداة التشبيه فيه أليق وتسمية ما لا يحسن إظهار أداة التشبيه فيه بالاستعارة أليق فإذا قلنا ‏"‏ زيدٌ أسد ‏"‏ حسن إظهار أداة التشبيه فيه بأن نقول‏:‏ زيد كالأسد وإذا قلنا كما قال الشاعر‏:‏ فرعاء إن نهضت لحاجتها عجل القضيب وأبطأ الدعص لا يحسن إظهار أداة التشبيه فيه على ما تقدم من ذكر ذلك أولاً‏.‏

فإن قيل‏:‏ إذا أجزت إضمار أداة التشبيه وقدرت إظهارها في قولك‏:‏ ‏"‏ زيد أسد ‏"‏ أي‏:‏ كالأسد فنحن نضمر أيضاً المستعار له ونقدر إظهاره فإنه لما قال الشاعر ‏"‏ عجل القضيب وأبطأ الدعص ‏"‏ أضمر المستعار له وهو القد والردف وإذا أظهر قيل‏:‏ عجل قد كالقضيب وأبطأ ردفٌ كالدعص ولا فرق بين الإضمارين فكما يسعك إضمار أداة التشبيه في قولك ‏"‏ زيد أسد ‏"‏ فكذلك يسعنا نحن إضمار المستعار له في قول الشاعر‏.‏

فالجواب عن ذلك أني أقول‏:‏ نحن في هذا المقام واقفون مع الاستحسان لا مع الجواز ولو تأملت ما أوردته في أول كلامي بالعين الصحيحة لما أوردت علي هذا الاعتراض ههنا فإني قلت التشبيه المضمر الأداة يحسن إظهار أداء التشبيه فيه والاستعارة لا يحسن إظهار أداة التشبيه فيها ولو قلت‏:‏ يجوز أو لا يجوز لورد علي هذا الاعتراض الذي ذكرته وقد علم وتحقق أن من الواجب في حكم الفصاحة والبلاغة ألا يظهر المستعار له وإذا ظهر ذهب ما على الكلام من الحسن والرونق ألا ترى أنا أوردنا هذا البيت الذي هو‏:‏ فأمطرت لؤلؤاً من نرجسٍ وسقت ورداً وعضت على العناب بالبرد وجد عليه من الحسن والرونق ما لا خفاء به وهو من باب الاستعارة فإذا أظهرنا المستعار له صرنا إلى كلام غث وذاك أنا نقول‏:‏ فأمطرت دمعاً كاللؤلؤ من عين كالنرجس وسقت خداً كالورد وعضت على أنامل مخضوبةٍ كالعناب بأسنان كالبرد وفرق بين هذين الكلامين للمتأمل واسع‏.‏

فرعاء إن نهضت لحاجتها عجل القضيب وأبطأ الدعص فإن هذا البيت لا خفاء بما عليه من الحسن وإذا ظهر فيه المستعار له زال ذلك الحسن عنه لا بل تبدل بضده وليس كذلك التشبيه المضمر الأداة فإنا إذا أظهرنا أداة التشبيه وأضمرناها كان ذلك سواء إذ لا فرق بين قولنا‏:‏ ‏"‏ زيد أسد ‏"‏ وبين قولنا ‏"‏ زيد كالأسد ‏"‏ وهذا لا يخفى على جاهل بعلم الفصاحة والبلاغة فضلاً عن عالم والمعول عليه في تأليف الكلام من المنثور والمنظوم إنما هو حسنه وطلاوته فإذا ذهب ذلك عنه فليس بشيء ونحن في الذي نورده في هذا الكتاب واقفون مع الحسن لا مع الجواز‏.‏

ثم لو تنزلنا معك أيها المعترض عن درجة الحسن إلى درجة الجواز لما استقام لك ما ذكرته وذاك أن إضمار أداة التشبيه ظاهر في قولنا‏:‏ ‏"‏ يد أسد ‏"‏ أي كالأسد وهو مضمر واحد وأما قول الشاعر‏:‏ ‏"‏ فرعاء إن نهضت لحاجتها ‏"‏ فإنه لا يضمر فيه أداة التشبيه إلا بعد أن يظهر المستعار له حينئذ يكون فيه إضماران‏:‏ أحدهما‏:‏ المستعار له والآخر‏:‏ أداة التشبيه وإضمار واحد أيسر من إضمارين‏:‏ أحدهما معلق على الآخر و إذا كان الأكر كذلك فالفرق بين الاستعارة والتشبيه هو ما قدمت القول فيه من أن المستعارة لا تكون إلا بحيث يطوي ذكر المستعار له فتأمل ما أشرت إليه وتدبر حتى تعلم أني ذكرت ما لم يذكره أحد غيري على هذا الوجه‏.‏

إنما سمي هذا القسم من الكلام استعارة لأن الأصل في الاستعارة المجازية مأخوذة من العارية الحقيقية التي هي ضرب من المعاملة وهي أن يستعير بعض الناس من بعض شيئاً من الأشياء ولا يقع ذلك إلا من شخصين بينهما سبب معرفة ما يقتضي استعارة أحدهما من الآخر شيئاً و إذا لم يكن بينهما سبب معرفة بوجه من الوجوه فلا يستعير أحدهما من الآخر شيئاً إذ لا يعرفه حتى يستعير منه وهذا الحكم جار في استعارة الألفاظ بعضها من بعض فالمشاركة بين اللفظين في نقل المعنى من أحدهما إلى الآخر كالمعرفة بين الشخصين في نقل الشيء المستعار من أحدهما الآخر‏.‏

واعلم أنه قد ورد من الكلام ما يجوز حمله على الاستعارة وعلى التشبيه المضمر الأداة معاً باختلاف القرينة وذاك أن يرد الكلام محمولاً على ضمير من تقدم ذكره فينتقل عن ذلك إلى غيره ويرتجل ارتجالاً‏.‏

فمما جاء منه قول البحتري‏:‏ إذا سفرت أضاءت شمس دجنٍ ومالت في التعطف غصن بان فلما قال‏:‏ ‏"‏ أضاءت شمس دجن ‏"‏ بنصب الشمس كان ذلك محمولاً على الضمير في قوله ‏:‏ ‏"‏ أضاءت ‏"‏ كأنه قال أضاءت هي وهذا تشبيه لأن المشبه مذكور وهو الضمير في ‏"‏ أضاءت ‏"‏ الذي نابت عنه التاء ويجوز حمله على الاستعارة بأن يقال‏:‏ ‏"‏ أضاءت شمس دجن ‏"‏ برفع الشمس ولا يعود الضمير حينئذٍ إلى من تقدم ذكره وإنما يكون الكلام مرتجلاً ويكون البيت‏:‏ إذا سفرت أضاءت شمس دجنٍ ومال من التعطف غصن بان وهذا الموضع فيه غموض وحرف التشبيه يحسن في الأول دون الثاني‏.‏

وأما القسم الذي يكون العدول فيه عن الحقيقة إلى المجاز لغير مشاركة بين المنقول والمنقول إليه وهو ضربان‏:‏ أحدهما‏:‏ يرد على وجه الإضافة واستعماله قبيح لبعد ما بين المضاف والمضاف إليه وذاك لأنه يلتحق بالتشبيه المضمر الأداة و إذا ورد التشبيه ولا مناسبة بين المشبه والمشبه به كان ذلك قبيحاً ولا يستعمل هذا الضرب من التوسع إلا جاهل بأسرار الفصاحة والبلاغة أو ساهٍ غافل يذهب به خاطره إلى استعماله ما لا يجوز ولا يحسن كقول أبي نواس‏:‏ بح صوت المال مما منك يشكو ويصيح فقوله‏:‏ ‏"‏ بح صوت المال ‏"‏ من الكلام النازل بالمرة ومراده من ذلك أن المال يتظلم من إهانتك إياه بالتمزيق فالمعنى حسن والتعبير عنه قبيح وما أحسن ما قال مسلم بن الوليد في هذا المعنى‏:‏ تظلم المال والأعداء من يده لا زال للمال والأعداء ظلاماً وكذلك ورد قول أبي نواس أيضاً‏:‏ ما لرجل المال أمست تشتكي منك الكلالا فإضافة الرجل إلى المال من إضافة الصوت‏.‏

ومن هذا الضرب قول أبي تمام‏:‏ وكم أحرزت منكم على قبح قدها صروف النوى من مرهفٍ حسن القد فإضافة القد إلى النوى من التشبيه البعيد البعيد وإنما أوقعه فيه المماثلة بين القد والقد وهذا أدب الرجل في تتبع المماثلة تارة والتجنيس أخرى حتى إنه ليخرج إلى بناء يعاب به أقبح عيب وأفحشه‏.‏

وكذلك ورد قوله‏:‏ بلوناك أما كعب عرضك في العلا فعالٍ وأما خد مالك أسفل فقوله‏:‏ كعب عرضك وخد مالك مما يستقبح ويستنكر ومراده من ذلك أن عرضك مصون و مالك مبتذل إلا أنه عبر عنه أقبح تعبير وأبو تمام يقع في مثل ذلك كثيراً‏.‏

وأما الضرب الآخر من التوسع فإنه يرد على غير وجه الإضافة وهو حسن لا عيب فيه وقد ورد في القرآن الكريم كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ‏"‏ فنسبة القول إلى السماء والأرض من باب التوسع لأنهما جماد والنطق إنما هو للإنسان لا للجماد ولا مشاركة ههنا بين المنقول والمنقول إليه‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ‏"‏‏.‏

وعليه ورد قول النبي صلى الله عليه وسلم فإنه نظر إلى أحدٍ يوماً فقال ٍ‏:‏ هذا جبلٌ يحبنا ونحبه ‏"‏ فإضافة المحبة إلى الجبل من باب التوسع إذ لا مشاركة بينه وبين الجبل الذي هو جماد‏.‏

وعلى هذا ورد مخاطبة الطلول ومساءلة الأحجار كقول أبي تمام‏:‏ وكقول أبي الطيب المتنبي‏:‏ إثلث فإنا أيها الطلل نبكي وترزم تحتنا الإبل فأبو تمام سائل ربوعاً عافية وأحجاراً دارسة ولا وجه لها ههنا إلا مساءلة الأهل كالذي في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واسأل القرية ‏"‏ أي‏:‏ أهل القرية وكل هذا توسع في العبارة إذ لا مشاركة بين رسوم الديار وبين فهم السؤال والجواب وكذلك قال أبو الطيب المتنبي في أمره الطلل بأن يكون ثالثهما لهما‏:‏ أي الركب والإبل وهذا واضح لا نزاع فيه‏.‏

فإذا قد تبين وتحقق ما أشرت إليه من هذا الموضوع فالمجاز لا يخرج عن هذه الأقسام الثلاثة‏:‏ إما توسع أو تشبيه أو استعارة وإذا حققنا النظر في الاستعارة والتشبيه وجدناهما أمراً قياسياً في حمل فرع على أصل لمناسبة بينهما وإن كانا يفترقان بحدهما وحقيقتهما‏.‏

فأما حد الاستعارة فقيل‏:‏ إنه نقل المعنى من لفظ إلى لفظ بسبب مشاركة بينهما وهذا الحد فاسد لأن التشبيه يشارك الاستعارة فيه ألا ترى أنا إذا قلنا‏:‏ ‏"‏ زيد أسد ‏"‏ أي كأنه أسد وهذا نقل المعنى من لفظ إلى لفظ بسبب مشاركة بينهما لأنا نقلنا حقيقة الأسد إلى زيد فصار مجازاً وإنما نقلناه لمشاركة بين زيد وبين الأسد في وصف الشجاعة‏.‏

والذي عندي من ذلك أن يقال‏:‏ حد الاستعارة نقل المعنى من لفظ إلى لفظ المشاركة بينهما مع طي ذكر المنقول إليه لأنه إذا احترز فيه هذا الاحتراز اختص الاستعارة وكان حداً لها دون التشبيه وطريقة أنك تريد تشبيه الشيء بالشيء مظهراً ومضمراً وتجيء إلى المشبه فتعيره اسم المشبه به وتجريه عليه مثال ذلك أن تقول‏:‏ رأيت أسداً وهذا كالبيت الشعر المقدم ذكره وهو‏:‏ فرعاء إن نهضت لحاجتها عجل القضيب وأبطأ الدعص فإن هذا الشاعر أراد تشبيه القد بالقضيب والردف بالدعص الذي هو كثيب الرمل فترك ذكر التشبيه مظهراً ومضمراً وجاء إلى المشبه وهو القد والردف فأعاره المشبه به وهو القضيب والدعص وأجراه عليه‏.‏

إلا أن هذا الموضع لا بد له من قرينه تفهم من فحوى اللفظ لأنه إذا قال القائل‏:‏ رأيت الأسد وهو يريد رجلاً شجاعاً فإن هذا القول لا يفهم منه ما أراد الحيوان المعروف بالأسد لكن إذا اقترن بقوله‏:‏ هذا قرينة تدل على أنه أراد رجلاً شجاعاً اختص الكلام بما أراد ألا ترى إلى قول الشاعر‏:‏ ‏"‏ عجل القضيب وأبطأ الدعص ‏"‏ فإنه دل عليه من نفس لأن قوله‏:‏ ‏"‏ فرعاء إن نهضت ‏"‏ دليل على أن المراد هو القد والردف لأن القضيب والدعص لا يكونان لامرأة فرعاء تنهض لحاجتها وكذلك كل ما يجيء على هذا الأسلوب لأن المستعار له وهو المنقول إليه مطوي الذكر‏.‏

وكنت تصفحت كتاب ‏"‏ الخصائص ‏"‏ لأبي الفتح عثمان بن جني فوجدته قد ذكر في المجاز شيئاً يتطرق إليه النظر وذلك أنه قال‏:‏ لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمعان ثلاثة وهي الاتساع والتشبيه والتوكيد فإن عدمت الثلاثة كانت الحقيقة ألبتة‏.‏

فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وأدخلناه في رحمتنا ‏"‏ فهذا مجاز وفيه الثلاثة المذكورة‏:‏ أما الاتساع فهو أنه زاد في أسماء الجهات والمحال اسماً وهو الرحمة وأما التشبيه فأنه شبه الرحمة وإن لم يصح دخولها بما يصح دخوله وأما التوكيد فهو أنه أخبر عما لا يدرك بالحاسة تعالياً بالمخبر عنه وتفخيماً له إذا صير بمنزلة ما يشاهد ويعاين‏.‏

هذا مجموع قول أبي الفتح رحمه الله من غير زيادة ولا نقص‏.‏

والنظر يتطرق إليه من ثلاثة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أنه جعل وجود هذه المعاني الثلاثة سبباً لوجود المجاز بل وجود واحد منها سبباً لوجوده ألا ترى أنه إذا وجد التشبيه وحده كان ذلك مجازاً و إذا وجد الاتساع وحده كان ذلك مجازاً ثم إن كان وجود هذه المعاني الثلاثة سبباً لوجود المجاز كان عدم واحد منها سبباً لعدمه ألا ترى أنا إذا قلنا‏:‏ لا يوجد الإنسان إلا بأن يكون حيواناً ناطقاً فالحيوانية والنطق سبب لوجود الإنسان و إذا عدم واحد منهما بطل أن يكون إنساناً وكذلك كل صفات تكون وأما الوجه الثاني‏:‏ فإنه ذكر التوكيد والتشبيه وكلاهما شيء واحد على الوجه الذي ذكره لأنه لما شبهت الرحمة وهي معنى لا يدرك بالبصر بمكان يدخل وهو صورة تدرك بالبصر دخل تحته التوكيد الذي هو إخبار عما لا يدرك بالحاسة بما قد يدرك بالحاسة على أن التوكيد ههنا على وجه ما أورده في تمثيله لا أعلم ما الذي أراد به لأنه لا يؤتى به في اللغة العربية إلا لمعنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه يرد أبداً فيما استقري بألفاظ محصورة نحو نفسه وعينه وكله وما أضيف إليها مما استقري وهو مذكور في كتب النحاة وقد كفيت مؤنته الآخر‏:‏ أنه يريد على وجه التكرير نحو‏:‏ قام زيد قام زيد كرر اللفظ في ذلك تحقيقاً للمعنى المقصود‏:‏ أي توكيداً والذي ذكره أبو الفتح رحمه الله تعالى لا يدل على أن المراد به أحد هذين المعنيين المشار إليهما ولا شك أنه أراد به المبالغة والمغالاة في إبراز المعنى الموهوم إلى الصورة المشاهدة فعبر عن ذلك بالتوكيد ولا مشاحة له في تعبيره و إذا أراد به ذلك فهو والتشبيه سواء على ما ذكره ولا حاجة إلى ذكر توكيد مع ذكر التشبيه‏.‏

وأما الوجه الثالث‏:‏ فإنه قال‏:‏ ‏"‏ أما الاتساع فهو أنه زاد في أسماء الجهات والمحال كذا وكذا ‏"‏ وهذا القول مضطرب شديد الاضطراب لأنه ينبغي على قياسه أن يكون جناح الذل في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واخفض لهما جناح الذل ‏"‏ زيادة في أسماء الطيور وذلك أنه زاد في أسماء الطيور اسماً لبست سواه أقواماً فكانوا كما أغنى التيمم بالصعيد فزاد في أسماء اللباس اسماً هو الآدمي وهذا مما يضحك منك نعوذ بالله من الخطل ‏!‏‏!‏ والاتساع في المجال لا يقال فيه كذا وإنما يقال هو أن تجري صفة من الصفات على موصوف ليس أهلاً لأن تجري عليه لبعد بينه وبينها كقول أبي الطيب المتنبي‏:‏ إثلث فإنا أيها الطلل نبكي وترزم تحتنا الإبل فإنه أجري الكلام على ذلك وإنما يستعمل طلباً للاتساع في أساليب الكلام لا لمناسبة بين الصفة والموصوف إذ لو كان لمناسبة لما كان ذلك اتساعاً وإنما كان ضرباً من القياس في حمل الشيء على ما يناسبه ويشاكله وحينئذٍ يكون ذلك تشبيهاً أو استعارة على ما أشرت إليه من قبل‏.‏

اقسام المجاز عند الغزالي والرد عليه وكنت اطلعت في كتاب من مصنفات أبي حامد الغزالي رحمه الله ألفه في أصول الفقه ووجدته قد ذكر الحقيقة والمجاز وقسم المجاز إلى أربعة عشر قسماً وتلك الأربعة عشر إلى الثلاثة التي أشرت إليها وهي‏:‏ التوسع والتشبيه والاستعارة ولا تخرج عنها والتقسيم لا يصح في شيء من الأشياء إلا إذا اختص كل قسم من الأقسام بصفة لا يختص بها غيره وإلا كان وسأورد ما ذكره وأبين فساده‏.‏

فالقسم الأول من الأقسام التي ذكرها هو ما جعل للشيء المشاركة في خاصة كقولهم للشجاع‏:‏ أسد وللبليد‏:‏ حمار وهذا القسم داخل في الاستعارة إن ذكر المنقول وحده مثل أن يقول القائل‏:‏ رأيت أسداً ومراده رجلاً شجاعاً أو رأيت حماراً ومراده رجلاً بليداً وداخل في التشبيه المضمر الأداة إن ذكر المنقول والمنقول إليه معاً كقول القائل‏:‏ زيد أسد‏:‏ أي كالأسد أو حمار‏:‏ أي كالحمار‏.‏

القسم الثاني تسمية الشيء باسم ما يئول إليه كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إني أراني أعصر خمراً ‏"‏ وإنما كان يعصر عنباً وهذا القسم داخل في القسم الأول لصفة المشابهة بين المنقول والمنقول إليه وهو من باب الاستعارة لا بل أوغل في المشابهة من ذاك لأن الخمر من العنب وليس من الرجل ولا الرجل من الأسد‏.‏

القسم الثالث تسمية الشيء باسم فرعه كقول الشاعر‏:‏ وما العيش إلا نومةٌ وتشرق وتمر على رأس النخيل وماء فسمى الرطب تمراً وهذا القسم والقسم الذي قبله سواء لأن هناك سمى العنب خمراً وههنا سمى الرطب تمراً فالعنب أصل والخمر فرع وكذلك الرطب أصل والتمر فرع وكلا هذين القسمين داخل في القسم الأول‏.‏

وهب أن الغزالي لم يحقق أمر المجاز وانقسامه إلى تلك الأقسام الثلاثة التي أشرت إليها ألم ينظر إلى هذين القسمين اللذين هما العنب والخمر والرطب والتمر ويعلم أنهما شيء واحد لا فرق بينهما القسم الرابع تسمية الشيء باسم أصله كقولهم للآدمي‏:‏ مضغة وهذا ضد القسم الذي قبله لأن ذاك جعل الأصل فيه فرعاً وهذا جعل الفرع فيه أصلاً وهو داخل في القسم الأول أيضاً‏.‏

القسم الخامس تسمية الشيء بدواعيه كتسميتهم الاعتقاد قولاً نحو قولهم‏:‏ هذا يقول بقول الشافعي رحمه الله‏:‏ أي يعتقد اعتقاده وهذا القسم داخل في القسم الأول لأن بين القول وبين الاعتقاد مناسبة كالمناسبة بين السبب والمسبب والباطن والظاهر‏.‏

القسم السادس تسمية الشيء باسم مكانه كقولهم للمطر‏:‏ سماء لأنه ينزل منها وهذا القسم داخل في الأول لصفة المناسبة بين المنقول والمنقول إليه وهو النزول من عالٍ وكل ما علاك فأظلك فهو سماء على أن الأغلب على ظني أن هذا القسم من الأسماء المشتركة وتسمية المطر بالسماء حقيقة فيه وليس من المجاز في شيء‏.‏

القسم السابع تسمية الشيء باسم مجاوره كقولهم للمزادة رواية وإنما الرواية الجمل الذي يحملها وهذا القسم من باب التوسع لا من باب التشبيه ولا من باب الاستعارة لأن على قياسه ينبغي أن يسمى الجمل زاملة لأنه يحملها‏.‏

القسم الثامن تسمية الشيء باسم جزئه كقولك لمن تبغضه‏:‏ أبعد الله وجهه عني وإنما تريد سائر جثته وهذا القسم داخل في القسم الأول وهو شبيه بتسمية الشيء باسم فرعه‏.‏

القسم التاسع تسمية الشيء باسم ضده وكقولهم للأسود والأبيض جون وهذا القسم ليس من المجاز في شيء ألبتة وإنما هو حقيقة في هذين المسمين معاً لأنه من الأسماء المشتركة كقولهم‏:‏ شمت السيف إذا سللته وشمته إذا أغمدته فدل الشيم على الضدين معاً بالوضع الحقيقي وفي اللغة من هذا شيء كثير فكيف يجعل هذا القسم من المجاز ولا شك أن الغزالي نظر إلى الضدين لا يجتمعان في محل واحد فقاس الاسم على الذات وظن أن الذاتين لا يجتمعان في اسم واحد كما أنهما لا يجتمعان في محل واحد‏.‏

فإن قيل‏:‏ لا نسلم إن اللفظ المشترك حقيقة بالوضع في المعنيين معاً لأن ذلك يخل بفائدة الوضع الذي هو البيان وإنما هو حقيقة في أحد معنييه مجاز في الآخر‏.‏

فالجواب عن ذلك‏:‏ أن هذا الموضع تقدم الكلام عليه في الفصل الثاني من مقدمة الكتاب وهو الفصل الذي يشمل على آلات علم البيان وأدواته فليؤخذ من هناك فإني قد أشبعت القول فيه إشباعاً لا مزيد عليه‏.‏

القسم العاشر تسمية الشيء بفعله كتسمية الخمر مسكراً وهذا القسم داخل في القسم الأول وأي مشاركة أقرب من هذه المشاركة فإن الإسكار صفة لازمة للخمر وليست الشجاعة صفة لازمة لزيد لأنه يمكن أن يكون زيد ولا شجاعة ولا يمكن أن يكون خمر ولا إسكار ألا ترى أنها لم تسم خمراً إلا لإسكارها فإنها تخمر العقل‏:‏ أي تستره‏.‏

القسم الحادي عشر تسمية الشيء بكله كقولك في جواب‏:‏ ‏"‏ ما فعل زيد ‏"‏ القيام والقيام جنس يتناول جميع أنواعه وهذا القسم لا ينبغي فإن قيل إن القيام يشمل جميع أنواع القيام من الماضي والحاضر والمستقبل‏.‏

قلت‏:‏ وهذا من أقرب أقسام المجاز مناسبة لأنه إقامة للمصدر مقام الفعل الماضي والمصدر أصل الفعل وعلى هذا فإن هذا داخل في القسم الأول‏.‏

القسم الثاني عشر الزيادة في الكلام لغير فائدة كقوله تعالى ‏"‏ فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ‏"‏ فما ههنا زائدة لا معنى لها‏:‏ أي فبرحمة من الله لنت لهم وهذا القول لا أراه صواباً وفيه نظر من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن هذا القسم ليس من المجاز لأن المجاز هو دلالة اللفظ على غير ما وضع له في أصل اللغة وهذا غير موجود في الآية وإنما هي دالة على الوضع اللغوي المنطوق به في أصل اللغة والوجه الآخر‏:‏ أني لو سلمت أن ذلك من المجاز لأنكرت أن لفظة ‏"‏ ما ‏"‏ زائدة لا معنى لها ولكنها وردت تفخيماً لأمر النعمة التي لان بها رسول الله صلى الله عليه وسلم له وهي محض الفصاحة ولو عرى الكلام منها لما كانت له تلك الفخامة وقد ورد مثلها في كلام العرب كالذي يحكى عن الزباء وذاك أن الوضاح الذي هو جذيمة الأبرش تزوجها والحكاية في ذلك مشهورة فلما دخل عليها كشفت له عن فرجها وقد ضفرت الشعر من فوقه ضفيرتين وقالت أذات عرس ترى إما إنه ليس ذلك من عوز المواس ولا من قلة الأواس ولكنه شيمة ما أناس فمعنى الكلام ولكنه شيمة أناس وإنما جاءت لفظة ‏"‏ ما ‏"‏ ههنا تفخيماً لشأن صاحب تلك الشيمة وتعظيماً لأمره ولو أسقطت لما كان للكلام ههنا هذه الفخامة والجزالة ولا يعرف ذلك إلا أهله من علماء الفصاحة والبلاغة وأما الغزالي رحمه الله تعالى فإنه معذور عندي في ألا يعرف ذلك لأنه ليس فنه ومن ذهب إلى أن في القرآن لفظاً زائداً لا معنى له فإما أن يكون جاهلاً بهذا القول وإما أن يكون متسمحاً في دينه واعتقاده وقول النحاة إن ‏"‏ ما ‏"‏ في هذه الآية زائدة فإنما يعنون به أنها لا تمنع ما قبلها عن العمل كما يسمونها في موضع آخر كافة‏:‏ أي أنها تكف الحرف العامل عن عمله كقولك‏:‏ إنما زيدٌ قائم فما قد كفت إن عن العمل في زيد وفي الآية لم تمنع عن العمل ألا ترى أنها لم تمنع الباء عن العمل في خفض الرحمة‏.‏

القسم الثالث عشر تسمية الشيء بحكمه كقوله تعالى ‏"‏ وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها ‏"‏ فسمي النكاح هبة وهذا القسم داخل في القسم الأول لأن النكاح هو تمكين الزوج من الوطء على عوض على هيئة مخصوصة والهبة تمكينه من الشيء الموهوب على غير عوض فشاركت الهبة النكاح في نفس التمكين من الوطء وإن اختلفا في الصورة‏.‏

القسم الرابع عشر النقصان الذي لا يبطل به المعنى كحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه قال الله تعالى ‏"‏ ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثم يرم به بريئاً ‏"‏ أي‏:‏ شخصاً بريئاً وكحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه قال الله تعالى ‏"‏ واسأل القرية ‏"‏ أي‏:‏ أهل القرية وهذا القسم داخل في القسم الأول‏:‏ أما حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه فلأن الصفة لازمة للموصوف وأما حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فلأنه دل بالمسكون على الساكن وتلك مقارنة قريبة‏.‏

فهذه أقسام المجاز التي ذكرها الغزالي رحمه الله تعالى وقد بينت فساد التقسيم فيها وأنها ترجع إلى ثلاثة أقسام هي‏:‏ التوسع والتشبيه والاستعارة‏.‏

وحيث انتهى بي الكلام إلى ههنا وفرغت مما أردت تحقيقه وبينت ما أردت بيانه فإني أتبع ذلك بضرب الأمثلة للاستعارة التي يستفيد بها المتعلم ما لا يستفيده بذكر الحد والحقيقة‏.‏

فمما جاء من ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى في أول سورة إبراهيم صلوات الله عليه ‏"‏ آلر كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ‏"‏ فالظلمات والنور‏:‏ استعارة للكفر والإيمان أو للضلال والهدى والمستعار له مطوي الذكر كأنه قال‏:‏ لتخرج الناس من الكفر الذي هو كالظلمة إلى الإيمان الذي هو كالنور‏.‏

وكذلك ورد قوله تعالى في هذه السورة أيضاً ‏"‏ وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ‏"‏ والقراءة برفع لتزول منه الجبال ليست من باب الاستعارة ولكنها في نصب تزول واللام لام كي والجبال ههنا‏:‏ استعارة طوى فيها ذكر المستعار له و هو أمر رسول الله‏)‏ وما جاء به من الآيات والمعجزات‏:‏ أي أنهم مكروا مكرهم لكي تزول منه هذه الآيات والمعجزات التي هي في ثباتها واستقرارها كالجبال‏.‏

وعلى هذا ورد قوله تعالى ‏"‏ والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ‏"‏ فاستعار الأودية للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها وإنما خص الأودية بالاستعارة ولم يستعر الطرق والمسالك أو ما جرى مجراها لأن الشعر تستخرج بالفكرة والروية والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق‏.‏

والاستعارة في القرآن قليلة لكن التشبيه المضمر الأداة كثير وكذلك هي في فصيح الكلام من الرسائل والخطب والأشعار لأن طي المستعار له لا يتيسر في كل كلام وأما التشبيه المضمر الأداة فكثير سهل لمكان إظهار المشبه والمشبه به معاً‏.‏

ومما ورد من الاستعارة في الأخبار النبوية قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تستضيئوا بنار المشركين ‏"‏ فاستعار النار للرأي والمشورة‏:‏ أي لا تهتدوا برأي المشركين ولا تأخذوا بمشورتهم‏.‏

وروي عنه ‏)‏ أنه دخل يوماً مصلاه فرأى أناساً كأنهم يكثرون فقال ‏"‏ أما إنكم لو أكثرتم من ذكر وبلغني عن العرب أنهم يقولون عند رؤية الهلال‏:‏ لا مرحباً باللجين مقرب أجل ومحل وهذا من باب الاستعارة في طي ذكر المستعار له‏.‏

وكذلك بلغني عن الحجاج بن يوسف أنه خطب خطبة عند قدومه العراق في أول ولايته إياه والخطبة مشهورة من جملتها أنه قال‏:‏ إن أمير المؤمنين نثل كنانته وعجمها عوداً عوداً فرآني أصلبها نجاراً وأقومها عوداً وأنفذها نصلاً فقوله ‏"‏ نثل كنانته وعجمها عوداً عوداً ‏"‏ يريد أنه عرض رجاله واختبرهم واحداً واحداً جد اختباره فرآني أشدهم وأمضاهم وهذا من الاستعارة الحسنة الفائقة ‏,‏ وقد جاءني من الاستعارة في رسائلي ما أذكر شيئاً منه ولو مثالاً واحداً وذلك أنه سألني بعض الأصدقاء أن أصف له غلامين تركيين كان يهواهما وكان أحدهما يلبس قباء أحمر والآخر قباء أسود‏:‏ فقلت‏:‏ إذا تشعبت أسباب الهوى كانت لسره أظهر وأضحت أمراضه خطراً كلها ولا يقال في أحدها هذا أخطر وقد هويت بدرين على غصنين ولا طاقة للقلب بهوى واحد فكيف إذا حمل هوى اثنين ومما شجاني أنها يتلونان في أصباغ الثياب كما يتلونان في فنون التجرم والعتاب وقد استجدا الآن زياً لا مزيد على حسنهما في حسنه فهذا يخرج في ثوب من حمرة خده وهذا في ثوب من سواد جفنه وما أدري من دلهما على هذا العجيب غير أنه على وهذا من الفصل بجملته مما تواصفه الناس وأغروا بحفظه‏.‏

وأما ما ورد من ذلك شعراً فكقول مسكين الدارمي من شعراء الحماسة‏:‏ لحافي لحاف الضيف والبيت بيته ولم يلهني عنه غزالٌ مقنع أحدثه إن الحديث من القرى وتعلم نفسي أنه سوف يهجع فالغزال المقنع هذا استعارة للمرأة الحسناء‏.‏

وكذا ورد قول رجل من بني يسار في كتاب الحماسة أيضاً‏:‏ أقول لنفسي حين خود رألها رويدك لما تشفقي حين مشفق رويدك حتى تنظري عم تنجلي عماية هذا العارض المتألق فالعارض المتألق‏:‏ استعارة للحرب أو الذي أطل بمكروهه كالبارق المتألق‏.‏

ويحكى أن امرأة وقفت لعبد الملك بن مروان وهو سائر إلى قتال مصعب بن الزبير فقالت يا أمير المؤمنين فقال‏:‏ رويدك حتى تنظري عم تنجلي وأنشد البيت‏.‏

ومن هذا الباب قول عبد السلام بن رغبان المعروف بديك الجن‏:‏ لما نظرت إلي عن حدق المها وبسمت عن متفتح النوار وعقدت بين قضيبٍ بانٍ أهيفٍ وكثيب رملٍ عقدة الزنار وهذه الأبيات لا تجد لها في الحسن شريكاً ولأن قائلها شحروراً أولى من يسمى ديكاً‏.‏

وكذلك ورد قوله‏:‏ لا ومكان الصليب في النحر من - ك ومجرى الزنار في الخصر والخال في الخد إذ أشبهه وردة مسكٍ على ثرى تبر وحاجبٍ مذ خطه قلم ال - حسن بحبر البهاء لا الحبر وأقحوانٍ بفيك منتظمٍ على شبيهٍ من رائق الخمر فالبيت الرابع هو المخصوص بالاستعارة والمستعار له هو الثغر والريق‏.‏

ومما ورد لأبي تمام في هذا المعنى قوله‏:‏ لما غدا مظلم الأحشاء من أشرٍ أسكنت جانحتيه كوكباً يقد فالكوكب‏:‏ استعارة الرمح‏.‏

وكذلك ورد قوله في الاعتذار‏:‏ أسرى طريداً للحياء من التي زعموا وليس لرهبةٍ بطريد وغداً تبين ما براءة ساحتي لو قد نفضت تهائمي ونجودي والتهائم والنجود‏:‏ هما استعارة مما استعاره من باطن أمره وظاهره‏.‏

كم أحرزت قضب الهندي مصلتةً تهتز من قضبٍ تهتز من كثب فالقضب والكثب‏:‏ استعارة للقدود والأرداف‏.‏

وكذلك ورد في هذه القصيدة أيضاً عند ذكر ملك الروم وانهزامه لما فتحت مدينة عمورية فقال‏:‏ إن يعد من حرها عدو الظليم فقد أوسعت جاحمها من كثرة الحطب فالحطب‏:‏ استعارة للقتلى‏.‏

وقبل هذا البيت ما يدل عليه لأنه قال‏:‏ أحذى قرابينه صرف الردى ومضى يحتث أنجى مطاياه من الهرب موكلاً بيفاع الأرض يشرفها من خفةٍ الخوف لا من خفة الطرب إن يعد من حرها عدو الظليم‏.‏

البيت وأحسن من هذا كله قوله‏:‏ تطل الطلول الدمع في كل منزلٍ وتمثل بالصبر الديار المواثل دوارس لم يجف الربيع ربوعها ولا مر في أغفالها وهو غافل يعفين من زاد العفاة إذا انتحى على الحي صرف الأزمة المتحامل فقوله زاد العفاة استعارة طوى فيها ذكر المستعار له وهو أهل الديار كأنه قال‏:‏ يعفين من قوم هم زاد العفاة‏.‏

وله في الغزل من الاستعارة ما بلغ به غاية اللطافة والرقة وذلك في قصيدته التي مطلعها‏:‏ إن عهداً لو تعلمان ذميما فقال‏:‏ قد مررنا بالدار وهي خلاءٌ فبكينا طلولها والرسوما وسألنا ربوعها فانصرفنا بسقامٍ وما سألنا حكيما كنت أرعى النجوم حتى إذا ما فارقوني أمسيت أرعى النجوما والبيت الثالث هو المخصوص بالاستعارة‏.‏

وعلى هذا المنهاج ورد قول البحتري وأغر في الزمن البهيم محجل قد رحت منه على أغر محجل والأغر المحجل الأول هو الممدوح والأغر المحجل الثاني‏:‏ هو الفرس الذي أعطاه إياه‏.‏

وكذلك ورد قوله‏:‏ وصاعقةٍ في كفه تنكفي بها على أرؤس الأعداء خمس سحائب وهذا من النمط العالي الذي شغلت براعة معناه وحسن سبكه عن النظر إلى استعارته والمراد بالسحائب الخمس الأصابع‏.‏

وكذلك ورد في أبيات الحماسة‏:‏ دك طود الكفر دكا صاعقٌ من وقع سيفك أرسلته خمس سحبٍ نشأت من بحر كفك وكذلك ورد قوله في أبيات يصف فيها السيف‏:‏ حملت حمائله القديمة بقلةً من عهد عادٍ غضةً لم تذبل وهذا من الحسن على ما يشهد لنفسه كأنه قال‏:‏ حملت حمائله سيفاً أخضر الحديد كالبقلة‏.‏

وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي الطيب المتنبي‏:‏ في الخد إن عزم الخليط رحيلا مطرٌ تزيد به الخدود محولا وكذلك ورد قوله‏:‏ يمد يديه في المفاضة ضيغم وأحسن من هذا قوله في قصيدته التي مطلعها‏:‏ فما تركن بها خلداً له بصرٌ تحت التراب ولا بازاً له قدم ولا هزبراً له من درعه لبدٌ ولا مهاةً لها من شبهها حشم وهذا من المليح النادر فالخلد‏:‏ استعارة لمن اختفى تحت التراب خائفاً والباز‏:‏ استعارة لمن طار هارباً والهزبر والمهاة‏:‏ استعارتان للرجال المقاتلة والنساء من السبايا‏.‏

ومن هذا الباب قوله‏:‏ كل جريحٍ ترجى سلامته إلا جريحاً دهته عيناه تبل خدي كلما ابتسمت من مطرٍ برقه ثناياها والبيت الثاني من الأبيات الحسان التي تتواصف وقد حسن الاستعارة التي فيه أنه جاء ذكر المطر مع البرق‏.‏

وبلغني عن أبي الفتح بن جني رحمه الله أنه شرح ذلك في كتابه الموسوم بالمفسر الذي ألفه في شرح شعر أبي الطيب فقال‏:‏ إنها كانت تبزق في وجهه فظن أن أبا الطيب أراد أنها كانت تبسم فيخرج الريق من فمها ويقع على وجهه فشبهه بالمطر وما كنت أطن أن أحداً من الناس يذهب وهمه وخاطره حيث ذهب وهم هذا الرجل وخاطره وإذا كان هذا قول إمامٍ من أئمة العربية تشد إليه الرحال فما يقال في غيره لكن فن الفصاحة والبلاغة غير فن النحو والإعراب‏.‏

إذا أنت أفنيت العرانين والذرى رمتك الليالي من يد الخامل الغمر وهبك اتقيت السهم من حيث يتقى فمن ليدٍ ترميك من حيث لا تدري فالعرانين والذرى‏:‏ هما عظماء الناس وأشرافهم كأنه قال‏:‏ إذا أفنيت عظماء الناس رميت من يد الخامل‏.‏

وإذا قد بينت أن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له فإنها لا تجيء إلا ملائمة مناسبة ولا يوجد فيها مباينة ولا تباعد لأنها لا تذكر مطوية إلا لبيان المناسبة بين المستعار منه والمستعار له ولو طويت ولم يكن هناك مناسبة بين المستعار منه والمستعار له لعسر فهمه ولم يبن المراد منها‏.‏

ورأيت أبا محمد عبد الله بن سنان الخفاجي رحمه الله تعالى قد خلط الاستعارة بالتشبيه المضمر الأداة ولم يفرق بينهما وتأسى في ذلك بغيره من علماء البيان كأبي هلال العسكري والغانمي وأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي على أن أبا القاسم بن بشر الآمدي كان أثبت القوم قدماً في فن الفصاحة والبلاغة وكتابه المسمى ب ‏"‏ الموازنة بين شعر الطائيين ‏"‏ يشهد له بذلك وما أعلم كيف خفي عليه الفرق بين الاستعارة والتشبيه المضمر الأداة‏.‏

ومما أورده ابن سنان في كتابه الموسوم ب ‏"‏ سر الفصاحة ‏"‏ قول امرئ القيس في صفة الليل‏:‏ وهذا البيت من التشبيه المضمر الأداة لأن المستعار له مذكور وهو الليل وعلى الخطأ في خلطه بالاستعارة فإن ابن سنان أخطأ في الرد على الآمدي ولم يوفق للصواب وأنا أتكلم على ما ذكره ولا أضايقه في الاستعارة والتشبيه بل أنزل معه على ما رآه من أنه استعارة ثم أبين فساد ما ذهب إليه‏.‏

وذاك أن الآمدي قال في كتاب الموازنة ‏"‏ إن امرأ القيس وصف أحوال الليل الطويل فذكر امتداد وسطه وتثاقل صدره وترادف أعجازه فلما جعل له وسطاً ممتداً ثقيلاً وأعجازاً رادفة لوسطه استعار له اسم الصلب وجعله متمطياً من أجل امتداده واسم الكلكل وجعله نائياً لتثاقله واسم العجز من أجل نهوضه ‏"‏ فقال ابن سنان الخفاجي معترضاً عليه‏:‏ ‏"‏ إن هذا الذي ذكره الآمدي ليس بمرضي غاية الرضا وإن بيت امرئ القيس من الاستعارة الجيدة ولا الرديئة بل هو وسط فإن الآمدي قد أفصح بأن امرأ القيس لما جعل لليل وسطاً ممتداً استعار له اسم الصلب وجعله متمطياً من أجل امتداده وحيث جعل له آخراً وأولاً استعار له عجزاً وكلكلاً وهذا كله إنما يحسن بعضه مع بعض فذكر الصلب إنما يحسن من أجل العجز والوسط والتمطي من أجل الصلب والكلكل لمجموع ذلك وهذه استعارة مبنية على استعارة أخرى ‏"‏ وفيه نظر من وجهين‏:‏ الأول‏:‏ أنه قال ‏"‏ هذا بيت من الاستعارة الوسطى التي ليست بجيدة ولا رديئة ‏"‏ ثم جعلها استعارة مبنية على استعارة أخرى وعنده أن الاستعارة المبنية على الاستعارة من أبعد الاستعارات وذاك أنه قسم الاستعارة إلى قسمين‏:‏ قريب مختار وبعيد مطرح فالقريب المختار‏:‏ ما كان بينه وبين ما استعير له تناسب قوي وشبه واضح والبعيد المطرح‏:‏ إما أن يكون لبعده مما استعير له في الأصل أو لأنه استعارة مبنية على استعارة أخرى فيضعف لذلك هذا ما ذكره ابن سنان الخفاجي في تقسيم الاستعارة وإذا كانت الاستعارة المبنية على استعارة أخرى عنده بعيدة مطرحة فكيف جعلها وسطاً هذا تناقض في القول‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنه لم يأخذ على الآمدي في موضع الأخذ لأنه لم يختر إلا ما حسن اختياره وذاك أن حد الاستعارة على ما رآه الآمدي وابن سنان هو نقل المعنى من لفظ إلى لفظ بسبب مشاركة بينهما وإن كان المذهب الصحيح في حد الاستعارة غير ذلك على ما تقدم الكلام عليه ولكني في هذا الموضع أنزل معهما على ما رأياه حتى يتوجه الكلام على الحكم بينهما في بيت امرئ القيس وإذا حددنا الاستعارة بهذا الحد فبه يفرق على رأي ابن سنان بين الاستعارة المرضية والاستعارة المطرحة فإذا وجدنا استعارة في كلام ما عرضناها على هذا الحد فما وجدنا فيه مناسبة بين المنقول عنه والمنقول إليه حكمنا له بالجودة وما لم نجد فيه تلك المناسبة حكمنا عليه بالرداءة وبيت امرئ القيس من الاستعارات المرضية لأنه لو لم يكن لليل صدر أعني أولاً ولم يكن له وسط وآخر لما حسنت هذه الاستعارة ولما كان الأمر كذلك استعار لوسطه صلباً وجعله متمطياً واستعار لصدره المتثاقل أعني أعين أوله كلكلاً وجعله نائياً واستعار لآخره عجزاً وجعله رادفاً لوسطه وكل ذلك من الاستعارة المناسبة‏.‏

وأما قول ابن سنان الخفاجي‏:‏ ‏"‏ إن الاستعارة المبنية على استعارة أخرى بعيدة مطرحة ‏"‏ فإن في هذا القول نظراً وذاك أنه قد ثبت لنا أصل نقيس عليه في الفرق بين الاستعارة المرضية والمطرحة كما أريناك ولا يمنع ذلك من أن تجيء استعارة مبنية على استعارة أخرى وتوجد فيها المناسبة المطلوبة في الاستعارة المرضية فإنه قد ورد في القرآن الكريم ما هو من هذا الجنس وهو قوله تعالى ‏"‏ وضرب الله مثلاً قريةً كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكانٍ فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ‏"‏ فهذه ثلاث استعارات ينبني بعضها على بعض فالأولى‏:‏ استعارة القرية للأهل والثانية‏:‏ استعارة الذوق للباس والثالثة‏:‏ استعارة اللباس للجوع والخوف وهذه الاستعارات الثلاث من التناسب على ما لا خفاء به فكيف يذم ابن سنان الخفاجي الاستعارة المبنية على استعارة أخرى وما أقول إن ذلك شذ عنه إلا لأنه لم ينظر إلى الأصل المقيس عليه وهو التناسب بين المنقول عنه والمنقول إليه بل نظر إلى التقسيم الذي هو قسمه في القرب أو البعد ورأى أن الاستعارة المبنية على استعارة أخرى تكون بعيدة فحكم عليها بالاطراح وإذا كان الأصل إنما هو التناسب فلا فرق بين أن يوجد في استعارة واحدة أو في استعارة مبنية على استعارة ولهذا أشباه ونظائر في غير الاستعارة ألا ترى أن المنطقي في المقدمة والنتيجة‏:‏ كل إنسان حيوان وكل حيوان نام فكل إنسان نام وكذلك يقول المهندس في الأشكال الهندسية‏:‏ إذا كان خط أب مثل خط بج وخط بج مثل خط جد فخط أب مثل خط جد وهكذا أقول أنا في الاستعارة‏:‏ إذا كانت الاستعارة الأولى مناسبة ثم بنى عليها استعارة ثانية وكانت أيضاً مناسبة فالجميع متناسب وهذا أمر برهاني لا يتصور إنكاره‏.‏

وهذا الشكل الذي أوردته ههنا هو اعتراض على ما ذكره ابن سنان الخفاجي في الاستعارة فلا تظن أني موافقه في الأصل وإنما وافقته قصداً لتبيين وجه الخطأ في كلامه وكيف يسوغ لي موافقته وقد ثبت عندي بالدليل أن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له وفيما قدمته من الكلام كفاية‏.‏

  النوع الثاني

وجدت علماء البيان قد فرقوا بين التشبيه والتمثيل وجعلوا لهذا باباً مفرداً ولهذا باباً مفرداً وهما شيء واحد لا فرق بينهما في أصل الوضع يقال‏:‏ شبهت هذا الشيء بهذا الشيء كما يقال‏:‏ مثتله به وما أعلم كيف خفي ذلك على أولئك العلماء مع ظهوره ووضوحه وكنت قدمت القول في باب الاستعارة على الفرق بين التشبيه وبينها ولا حاجة إلى إعادته ههنا مرة ثانية‏.‏

والتشبيه ينقسم قسمين‏:‏ مظهر ومضمر وفي المضمر إشكال في تقدير أداة التشبيه فيه في بعض المواضع وهو ينقسم أقساماً خمسة فالأول يقع موقع المبتدأ والخبر المفردين والثاني‏:‏ يقع موقع المبتدأ والمفرد وخبره جملة مركبة من مضاف ومضاف إليه والثالث‏:‏ يقع موقع المبتدأ والخبر جملتين والرابع يرد على وجه الفعل والفاعل والخامس‏:‏ يرد على وجه المثل المضروب‏.‏

وهذان القسمان الأخيران هما أشكل الأقسام في تقدير أداة التشبيه‏.‏

أما الأول‏:‏ فكقولنا زيد أسد فهذا مبتدأ وخبره وإذا قدرت أداة التشبيه فيه كان ذلك ببديهة النظر على الفور فقيل زيد كالأسد‏.‏

وأما القسم الثاني والثالث‏:‏ فإنهما متوسطان في تقدير أداة التشبيه فيهما فإنهما فالثاني كقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الكمأة جدري الأرض ‏"‏ وهذا يتنوع نوعين فإذا كان المضاف إليه معرفة كهذا الخبر النبوي لا يحتاج في تقدير التشبيه إلى تقديم المضاف إليه بل إن شئنا قدمناه وإن شئنا أخرناه فقلنا الكمأة للأرض كالجدري أو الكمأة كالجدري للأرض وإذا كان المضاف إليه نكرة فلا بد من تقديمه عند تقدير أداة التشبيه‏.‏

فمن ذلك قول البحتري‏:‏ غمام سماحٍ لا يغب له حياً ومسعر حربٍ لا يضيع له وتر فإذا قدرنا أداة التشبيه ههنا قلنا‏:‏ سماح كالغمام‏:‏ ولا يقدر إلا هكذا والمبتدأ في هذا البيت محذوف وهو الإشارة إلى الممدوح كأنه قال‏:‏ هو غمام سماح‏.‏

ومن هذا النوع ما يشكل تقدير أداة التشبيه فيه على غير العارف بهذا الفن كقول أبي تمام‏:‏ أي مرعى عينٍ ووادي نسيب لحبته الأيام في ملحوب ومراد أبي تمام أن يصف هذا المكان بأنه كان حسناً ثم زال عنه حسنه فقال‏:‏ إن العين كانت تلتذ بالنظر إليه كالتذاذ السائمة بالمرعى فإنه كان يشبب به في الأشعار لحسنه وطيبه وإذا قدرنا أداة التشبيه ههنا قلنا‏:‏ كأنه كان للعين مرعى وللنسيب منزلاً ومألفاً‏.‏

وإذا جاء شيء من الأبيات الشعرية على هذا الأسلوب أو ما يجري مجراه فإنه يحتاج إلى عارف وأما الثالث فكقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم ‏"‏ كأنه قال‏:‏ كلام الألسنة كحصائد المناجل‏.‏

وهذا القسم لا يكون المشبه به مذكوراً فيه بل تذكر صفته ألا ترى أن المنجل لم يذكر ههنا وإنما ذكرت صفته وهي الحصد وكل ما يجيء من هذا القسم فإنه لا يرد إلا كذلك‏.‏

وأما القسم الرابع والخامس اللذان هما أشكل الأقسام المذكورة في تقدير أداة التشبيه فيهما لا يتفطن لهما أنهما تشبيه‏.‏

فمما جاء من القسم الرابع قوله تعالى ‏"‏ والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم ‏"‏ وتقدير أداة التشبيه في هذا الموضع أن يقال‏:‏ هم في إيمانهم كالمتبوئ داراً‏:‏ أي أنهم قد اتخذوا الإيمان مسكناً يسكنونه يصف بذلك تمكنهم منه‏.‏

وعلى هذا ورد قول أبي تمام‏:‏ نطقت مقلة الفتى الملهوف فتشكت بفيض دمعٍ ذروف وإذا أردنا أن نقدر أداة التشبيه ههنا قلنا‏:‏ دمع العين كنطق اللسان الباكية كأنما تنطق بما في الضمير‏.‏

وأما ما جاء من القسم الخامس فكقول الفرزدق يهجو جريراً‏:‏ فشبه هجاء جرير تغلب وائل ببوله في مجمع البحرين فكما أن البول في مجمع البحرين لا يؤثر شيئاً فكذلك هجاؤك القوم لا يؤثر شيئاً وهذا البيت من الأبيات الذي أقر له الناس بالحسن‏.‏

وكذلك ورد قوله أيضاً‏:‏ قوارص تأتيني وتحتقرونها وقد يملأ القطر الإناء فيفعم فإنه شبه القوارص التي تأتيه محتقرة بالقطر الذي يملأ الإناء على صغر مقداره يشير بذلك إلى أن الكثرة تجعل الصغير من الأمر كبيراً‏.‏

وهذا الموضع يشكل على كثير من علماء البيان ويخلطونه بالاستعارة كقول البحتري في التعزية بولد‏:‏ تعز فإن السيف يمضي وإن وهت حمائله عنه وخلاه قائمه وهذا ليس من التشبيه وإنما هو استعارة لأن المستعار له مطوي الذكر وهو المعزى كأنه قال‏:‏ تعز فإنك كالسيف يمضي وإن وهت حمائله وخلاه قائمه‏.‏

فإن قيل‏:‏ إنك قدمت في باب الاستعارة بأن التشبيه المضمر الأداة يحسن تقدير أداة التشبيه فيه والاستعارة لا يحسن تقدير أداة التشبيه فيها وجعلت ذلك هو الفرق بين التشبيه المضمر الأداة بين الاستعارة وقررت ذلك تقريراً طويلاً عريضاً ثم نراك قد نقضته ههنا بقولك‏:‏ إن من التشبيه المضمر الأداء ما يشكل تقدير أداة التشبيه فيه وإنه يحتاج في تقديرها إلى نظر كهذين البيتين المذكورين للفرزدق وما يجري مجراهما‏.‏

فالجواب عن ذلك أني أقول‏:‏ هذا الذي ذكرته لا ينقص علي شيئاً مما قدمت القول فيه في باب الاستعارة لأني قلت‏:‏ إن التشبيه المضمر الأداة يحسن تقدير الأداة فيه‏:‏ أي لا يتغير بتقديرها فيه عن صفته التي اتصف بها من فصاحة وبلاغة وليس كذلك الاستعارة فإنها إذا قدرت أداة التشبيه فيها تغيرت عن صفتها التي اتصفت بها من فصاحة وبلاغة وأما الذي ورد ههنا من بيتي الفرزدق وما يجري مجراهما من التشبيه المضمر الأداة فإن أداة التشبيه لا تتقدر فيه وهو على حالته من النظم حتى تتبين هل تغيرت صفته التي اتصف بها من فصاحة وبلاغة أم لا وإنما تتقدر أداة التشبيه فيه على وجه آخر وهذا لا ينقض ما أشرت إليه في باب الاستعارة‏.‏

وإذا ثبتت هذه الأقسام الأربعة فأقول‏:‏ إن التشبيه المضمر أبلغ من التشبيه المظهر وأوجز‏:‏ أما كونه أبلغ فلجعل المشبه مشبهاً به من غير واسطة أداة فيكون هو إياه فإنك إذا قلت زيد أسد كنت قد جعلته أسداً من غير إظهار أداة التشبيه وأما كونه أوجز فلحذف أداة التشبيه منه و على هذا فإن القسمين من المظهر والمضمر كليهما في فضيلة البيان سواء فإن الغرض المقصود من قولنا ‏"‏ زيد أسد ‏"‏ أن يتبين حال زيد في اتصافه بشهامة النفس وقوة البطش وجراءة الإقدام وغير ذلك مما يجري مجراه إلا أنا لم نجد شيئاً ندل به عليه سوى أن جعلناه شبيهاً بالأسد حيث كانت هذه الصفات مختصة به فصار ما قصدناه من هذا القول أكشف وأبين من أن لو قلنا‏:‏ زيد شهم شجاع قوي البطش جريء الجنان وأشباه ذلك لما قد عرف وعهد من اجتماع هذه الصفات في المشبه أعني الأسد وأما زيد الذي هو المشبه فليس معروفاً بها وإن كانت موجودة فيه‏.‏

وكلا هذين القسمين أيضاً يختص بفضيلة الإيجاز وإن كان المضمر أوجز من المضمر لأن قولنا‏:‏ زيد أسد أو كالأسد يسد مسد قولنا‏:‏ زيد من حاله كيت وكيت وهو من الشجاعة والشدة على كذا وكذا مما يطول ذكره‏.‏

فالتشبيه إذاً يجمع صفات ثلاثة هي المبالغة والبيان والإيجاز كما أريتك إلا أنه من بين أنواع علم البيان مستوعر الذهب وهو مقتل من مقاتل البلاغة وسبب ذلك أن حمل الشيء على الشيء بالمماثلة إما صورة وإما معنى يعز صوابه وتعمر الإجادة فيه وقلما أكثر منه أحد إلا عثر كما فعل ابن المعتز من أدباء العراق وابن وكيع من أدباء مصر فإنهما أكثرا من ذلك لا سيما في وصف الرياض والأشجار والأزهار والثمار لا جرم أنهما أتيا بالغث البارد الذي لا يثبت على محك الصواب فعليك أن تتوقى ما أشرت إليه‏.‏

وأما فائدة التشبيه من الكلام فهي أنك إذا مثلت الشيء بالشيء فإنما تقصد به إثبات الخيال في النفس بصورة المشبه به أو معناه وذلك أوكد في طرفي الترغيب فيه أو التنفير عنه ألا ترى أنك إذا شبهت صورة بصورة هي أحسن منها كان ذلك مثبتاً في النفس خيالاً حسناً يدعو إلى الترغيب فيها وكذلك إذا شبهتها بصورة شيء أقبح منها كان ذلك مثبتاً في النفس خيالاً قبيحاً يدعو إلى التنفير عنها وهذا لا نزاع فيه‏.‏

ولنضرب له مثالاً يوضحه فنقول‏:‏ قد ورد عن ابن الرومي في مدح العسل وذمه بيت من الشعر وهو‏:‏ تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تعب قلت ذا قيء الزنابير ألا ترى كيف مدح وذم الشيء الواحد بتصريف التشبيه المجازي المضمر الأداة الذي خيل به إلى السامع خيالاً يحسن الشيء عنده تارة ويقبحه أخرى ولولا التوصل بطريق التشبيه على هذا الوجه لما أمكنه ذلك وهذا المثال كاف فيما أردناه‏.‏

واعلم أن محاسن التشبيه أن يجيء مصدرياً كقولنا‏:‏ أقدم إقدام الأسد وفاض فيض البحر وهو ما أحسن ما استعمل في باب التشبيه كقول أبي نواس في وصف الخمر‏:‏ وإذا ما مزجوها وثبت وثب الجراد وقيل‏:‏ إن من شرط بلاغة التشبيه أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم ومن ههنا غلط بعض الكتاب من أهل مصر في ذكر حصن من حصون الجبال مشبهاً له فقال‏:‏ هامةٌ عليها من الغمامة عمامة وأنملة خضبها الأصيل فكان الهلال منها قلامة وهذا الكاتب حفظ شيئاً وغابت عنه أشياء فإنه أخطأ في قوله ‏"‏ أنملة ‏"‏ وأي مقدار للأنملة إلى تشبيه حصن على رأس جبل وأصاب في المناسبة بين ذكر الأنملة والقلامة وتشبيهها بالهلال‏.‏

فإن قيل إن هذا الكاتب تأسى فيما ذكره بكلام الله تعالى حيث قال ‏"‏ الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ‏"‏ فمثل نوره بطاقةٍ فيها ذبالة وقال الله تعالى ‏"‏ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ‏"‏ فمثل الهلال بأصل عذق النخلة‏.‏

فالجواب عن ذلك أني أقول‏:‏ أما تمثيل نور الله تعالى بمشكاة فيها مصباح فإن هذا مثال ضربه للنبي صلى الله عليه وسلم ويدل عليه أنه قال ‏"‏ توقد من شجرةٍ مباركة زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ ‏"‏ وإذا نظرت إلى هذا الموضع وجدته تشبيهاً لطيفاً عجيباً وذاك أن قلب النبي صلى الله عليه وسلم وما ألقي فيه من النور وما هو عليه من الصفة الشفافة كالزجاجة التي كأنها كوكب لصفائها وإضاءتها ويما الشجرة المباركة التي لا شرقية ولا غربية فإنها عبارة عن ذات النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من أرض الحجاز التي لا تميل إلى الشرق ولا إلى الغرب وأما زيت هذه الزجاجة فإنه مضيء من غير أن تمسه نار والمراد أن فطرته فطرةٌ صافية من الأكدار منيرة من قبل مصافحة الأنوار فهذا هو المراد بالتشبيه الذي ورد في هذه الآية‏.‏

وأما الآية الأخرى فإنه شبه الهلال فيها بالعرجون القديم وذلك في هيئة نحوله واستدارته لا في مقداره فإن مقدار الهلال عظيم ولا نسبة للعرجون إليه لكنه في مرأى النظر كالعرجون هيئةً لا مقداراً‏.‏

وأما هذا الكاتب فإن تشبيهه ليس على هذا النسق لأنه شبه صورة الحصن بأنملة في المقدار لا في هيئة والشكل وهذا غير حسن ولا مناسب وإنما ألقاه فيه أنه قصد الهلال والقلامة مع ذكر الأنملة فأخطأ من جهة وأصاب من جهة لكن خطؤه غطى على صوابه‏.‏

والقول السديد في بلاغة التشبيه هو ما أذكره وهو‏:‏ أن إطلاق من أطلق قوله في أن من شرط بلاغة التشبيه أن يشبه الأصغر بالأكبر غير سديد فإن هذا قول غير حاصرٍ للغرض المقصود لأن التشبيه يأتي تارة في معرض المدح وتارة في معرض الذم وتارة في غير معرض مدح ولا ذم وإنما يأتي قصداً للإبانة والإيضاح ولا يكون تشبيه أصغر بأكبر كما ذهب إليه من ذهب بل القول الجامع في ذلك أن يقال‏:‏ إن التشبيه لا يعمد إليه إلا لضرب من المبالغة‏:‏ فإما أن يكون مدحاً أو ذماً أو بياناً وإيضاحاً ولا يخرج عن هذه المعاني الثلاثة وإذا كان الأمر كذلك فلا بد فيه من تقدير لفظة أفعل فإن لم تقدر لفظة أفعل فليس بتشبيه بليغ ألا ترى أنا نقول في التشبيه المضمر الأداة‏:‏ زيد أسد فقد شبهنا زيداً بأسد الذي هو أشجع منه فإن لم يكن المشبه به في هذا المقام أشجع من زيد الذي هو المشبه وإلا كان التشبيه ناقصاً إذ لا مبالغة فيه‏.‏

وأما التشبيه المظهر الأداة فكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام ‏"‏ وهذا تشبيه كبير بما هو أكبر منه لأن خلق السفن البحرية كبير وخلق الجبال أكبر منه وكذلك إذا شبه شيء حسن بشيء حسن فإنه إذا لم يشبه بما هو أحسن منه فليس بوارد على طريق البلاغة وإن شبه قبيح بقبيح وهكذا ينبغي أن يكون المشبه به أقبح وإن قصد البيان والإيضاح فينبغي أن يكون المشبه به أبين وأوضح فتقدير لفظة أفعل لا بد منه فيما يقصد به بلاغة التشبيه وإلا كان التشبيه ناقصاً فاعلم ذلك وقس عليه‏.‏

واعلم أنه لا يخلو تشبيه الشيئين‏:‏ أحدهما بالآخر من أربعة أقسام‏:‏ إما تشبيه معنى بمعنى كالذي تقدم ذكره من قولنا‏:‏ زيد كالأسد وإما تشبيه صورة بصورة كقوله تعالى ‏"‏ وعندهم قاصرات الطرف عينٌ كأنهن بيضٌ مكنونٌ ‏"‏ وإما تشبيه معنى بصورة كقوله تعالى ‏"‏ والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ ‏"‏ وهذا القسم أبلغ الأقسام الأربعة لتمثيله المعاني الموهومة بالصور المشاهدة وإما تشبيه صورة بمعنى كقول أبي تمام‏:‏ فشبه فتكه بالمال وبالعدا وذلك صورة مرئية بفتك الصبابة وهو فتك معنوي وهذا القسم ألطف الأقسام الأربعة لأنه نقل صورة إلى غير صورة‏.‏

وكل واحد من هذه الأقسام الأربعة المشار إليها لا يخلو التشبيه فيه من أربعة أقسام أيضاً‏:‏ إما تشبيه مفرد بمفرد وإما تشبيه مركب بمركب وإما تشبيه مفرد بمركب وإما تشبيه مركب بمفرد‏.‏

والمراد بقولنا مفرد ومركب‏:‏ أن المفرد يكون تشبيه شيء واحد بشيء واحد والمركب تشبيه شيئين اثنين وكذلك المفرد بالمركب والمركب بالمفرد فإن أحدهما يكون تشبيه شيء واحد بشيئين والآخر‏:‏ يكون تشبيه شيئين بشيء واحد ولست أعني بقولي‏:‏ ‏"‏ تشبيه شيئين بشيئين ‏"‏ أن لا يكون إلا كذلك بل أردت تشبيه شيئين بشيئين فما فوقهما كقول بعضهم في الخمر وكأنها وكأن حامل كأسها إذ قام يجلوها على الندماء شمس الضحى رقصت فنقط وجهها بدر الدجى بكواكب الجوزاء فشبه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء فإنه شبه الساقي بالبدر وشبه الخمر بالشمس وشبه الحبب الذي فوقها بالكواكب‏.‏

وإذا بينت أن التشبيه ينقسم إلى تلك الأقسام الأربعة فإني أقول‏:‏ إن التشبيه المضمر الأداة قد قدمت القول في أنه ينقسم إلى خمسة أقسام فالقسم الأول‏:‏ لا يرد إلا في تشبيه مفرد بمفرد والقسم الثاني لا يرد إلا في تشبيه مفرد بمركب والقسم الثالث‏:‏ لا يرد إلا في تشبيه مركب بمركب والقسم الرابع والخامس‏:‏ لا يردان إلا في تشبيه مركب بمركب ألا ترى أنا إذا قلنا في القسم الأول‏:‏ زيد أسد كان ذلك تشبيه مفرد بمفرد وإذا قلنا في القسم الثاني‏:‏ ما مثلناه به من الخبر النبوي وهو ‏"‏ الكمأة جدري الأرض ‏"‏ كان ذلك تشبيه مفرد بمركب وكذلك بيت البحتري وبيت أبي تمام المشار إليهما فيما تقدم وإذا قلنا في القسم الثالث ما أشرنا إليه من الخبر النبوي أيضاً الذي هو ‏"‏ وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم ‏"‏ كان ذلك تشبيه مركب بمركب وإذا قلنا في القسم الرابع والخامس‏:‏ ما مثلنا به من بيتي الفرزدق والبحتري كان ذلك تشبيه مركب بمركب وإذا كان الأمر كذلك وجاءك شيء من التشبيه المضمر الأداة وهو من القسم الأول فاعلم أنه تشبيه مفرد بمفرد بمركب وإذا جاءك شيء من القسم الثالث فاعلم أنه تشبيه مركب بمركب وكذلك إذا جاءك شيء من القسم الرابع والقسم الخامس فإنهما من باب تشبيه المركب بالمركب‏.‏

ولنرجع إلى ذكر ما أشرنا إليه أولاً في تقسيم التشبيه إلى الأربعة أقسام الأخرى التي هي‏:‏ تشبيه مفرد بمفرد وتشبيه مركب بمركب وتشبيه مفرد بمركب وتشبيه مركب بمفرد‏.‏

فالقسم الأول منها‏:‏ كقوله تعالى في المضمر الأداة ‏"‏ وجعلنا الليل لباساً ‏"‏ فشبه الليل باللباس وذاك أنه يستر الناس بعضهم عن بعض لمن أراد هرباً من عدو أو ثباتاً لعدو أو إخفاء ما لا يحب الإطلاع عليه من أمره وهذا من التشبيهات التي لم يأته بها إلا القرآن الكريم فإن تشبيه الليل باللباس مما اختص به دون غيره من الكلام المنظوم والمنثور‏.‏

وكذلك قوله تعالى ‏"‏ هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن ‏"‏ فشبه المرأة باللباس للرجل وشبه الرجل باللباس للمرأة‏.‏

ومن محاسن التشبيهات قوله تعالى ‏"‏ نساؤكم حرثٌ لكم ‏"‏ وهذا يكاد ينقله تناسبه عن درجة المجاز إلى الحقيقة والحرث‏:‏ هو الأرض التي تحرث للزرع وكذلك الرحم يزدرع فيه الولد ازدراعاً كما يزدرع البذر في الأرض‏.‏

ومن هذا الأسلوب قوله تعالى ‏"‏ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ‏"‏ فشبه تبرؤ الليل من النهار بانسلاخ الجلد المسلوخ وذاك أنه لما كانت هوادي الصبح عند طلوعه ملتحمةً بأعجاز الليل أجرى عليهما اسم السلخ وكان ذلك أولى من أن لو قيل ‏"‏ يخرج ‏"‏ لأن السلخ أدل على الالتحام من الإخراج وهذا تشبيه في غاية المناسبة‏.‏

وكذلك ورد قوله تعالى ‏"‏ واشتعل الرأس شيباً ‏"‏ فشبه انتشار الشيب باشتعال النار ولما كان الشيب يأخذ في الرأس ويسعى فيه شيئاً فشيئاً حتى يحيله إلى غير لونه الأول بمنزلة النار التي تشتعل في الجسم وتسري فيه حتى تحيله إلى غير حاله الأولى وأحسن من هذا أن يقال‏:‏ إنه شبه انتشار الشيب باشتعال النار‏:‏ في سرعة التهابه وتعذر تلافيه وفي عظم الألم في القلب به وأنه لم يبق بعده إلا الخمود فهذه أوصاف أربعة جامعة بين المشبه والمشبه به وذلك في الغاية القصوى من التناسب والتلاؤم‏.‏

وقد ورد من الأمثال ‏"‏ الليل جنة الهارب ‏"‏ وهذا تشبيه حسن‏.‏

وكل ذلك من التشبيه المضمر الأداة‏.‏

ومما ورد منه شعراً قول أبي الطيب المتنبي‏:‏ وإذا اهتز للندى كان بحراً وإذا اهتز للوغى كان نصلاً وإذا الأرض أظلمت كان شمساً وإذا الأرض أمحلت كان وبلا فحرف التشبيه ههنا مضمر وتقديره كان كأنه بحر وكان كأنه نصل‏.‏

وكذلك يقال في البيت الثاني‏:‏ كان كأنه شمس وكان كأنه وبل وهذا تشبيه صورة بصورة و هو حسن في معناه‏.‏

وكذلك ورد قول أبي نواس وهو في تشبيه الحبب‏:‏ فإذا ما اعترضته ال - عين من حيث استدارا وهذا تشبيه صورة بصورة أيضاً‏.‏

وقد أبرز هذا المعنى في لباس آخر فقال‏:‏ وإذا علاها الماء ألبسها حبباً شبيه جلاجل الحجل حتى إذا سكنت جوامحها كتبت بمثل أكارع النمل ومن هذا قول البحتري‏:‏ تبسمٌ وقطوبٌ في ندىً ووغىً كالرعد والبرق تحت العارض البرد وهذا من أحسن التشبيه وأقربه إلا أن فيه إخلالاً من جهة الصنعة وهي ترتيب التفسير فإن الأولى أن كان قدم تفسير التبسم على تفسير القطوب‏:‏ بأن كان قال‏:‏ كالبرق والرعد فانظر أيهما المنتمي إلى الفن كيف ذهب على البحتري مثل هذا الموضوع على قربه مع تقدمه في صناعة الشعر وليس في ذلك كبير أمر سوى أن كان قدم ما أخر لا غير وإنما يعذر الشاعر في مثل هذا المقام إذا حكم عليه الوزن والقافية واضطر إلى ترك ما يجب عليه وأما إذا كانت الحال التي ذكرها البحتري فحينئذ لا عذر له وسيأتي باب مفرد في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وهو باب ترتيب التفسير‏.‏

وكذلك ورد قول البحتري‏:‏ ومن تشبيه المفرد بالمفرد قول أبي الطيب المتنبي‏:‏ خرجن من النقع في عارض ومن عرق الركض في وابل فلما نشفن لقين السياط بمثل صفا البلد الماحل وقد حوى هذان البيتان قرب التشبيه مع براعة النظم وجزالة اللفظ‏.‏

وأما القسم الثاني وهو تشبيه المركب بالمركب فمما جاء منه مضمر الأداة ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يرويه معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو حديث طويل يشتمل على فضائل أعمال متعددة ولا حاجة إلى إيراده ههنا على نصه بل نذكر الغرض منه وهو أنه قال له رسول الله ‏)‏‏"‏ أمسك عليك هذا ‏"‏ وأشار إلى لسانه فقال معاذ‏:‏ أو نحن مؤاخذون بما نتكلم به فقال‏:‏ ‏"‏ ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم ‏"‏ فقوله ‏"‏ حصائد ألسنتهم ‏"‏ من تشبيه المركب بالمركب فإنه شبه الأسنة وما تمضي فيه من الأحاديث التي يؤاخذ بها بالمناجل التي تحصد النبات من الأرض وهذا تشبيه بليغ عجيب لم يسمع إلا من النبي صلى الله عليه وسلم ومما ورد منه شعراً قول أبي تمام‏:‏ معشر أصبحوا حصون المعالي ودروع الأحساب والأعراض فقوله ‏"‏ حصون المعالي ‏"‏ من التشبيه المركب وذاك أنه شبههم في منعهم المعالي أن ينالها أحد سواهم بالحصون في منعها من بها وحمايته وكذلك قوله ‏"‏ دروع الأحساب ‏"‏ وأما المظهر الأداة فمما جاء منه قوله تعالى ‏"‏ إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس ‏"‏ فشبهت حال الدنيا في سرعة زوالها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض وذاك تشبيه صورة بصورة وهو من أبدع ما يجيء في بابه‏.‏

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في وصف حال المنافقين ‏"‏ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون ‏"‏ تقديره أن مثل هؤلاء المنافقين كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة بمفازة فاستضاء بها ما حوله فاتقى ما يخاف وأمن فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي مظلماً خائفاً وكذلك المنافق إذا أظهر كلمة الإيمان استنار بها واعتز بعزها وأمن على نفسه وماله وولده فإذا مات عاد إلى الخوف وبقي في العذاب والنقمة‏.‏

ومما ورد في الأخبار النبوية قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيبٌ ولا طعم لها ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر ‏"‏ وهذا من باب تشبيه المركب بالمركب ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه المؤمن القارئ وهو متصف بصفتين هما الإيمان والقراءة بالأترجة وهي ذات وصفين هما الطعم والريح وكذلك يجري الحكم في المؤمن غير القارئ وفي المنافق القارئ وفي المنافق غير القارئ‏.‏

وقد جاءني شيء من ذلك أوردته في فصل من كتاب أصف فيه البر والمسير فقلت‏:‏ لم أزل أصل الذميل بالذميل وألف الضحى بالأصيل والأرض كالبحر في سعة صدره والمطايا كالجواري راكدة على ظهره فمكان الركب منها كمكانهم من الأكوار ومسيرهم فيها على كرة لا تستقر بها حركة الأدوار‏.‏

وأما ما ورد من ذلك شعراً فكقول البحتري‏:‏ خلقٌ منهم تردد فيهم وليته عصابة عن عصابه كالحسام الجراز يبقى على الده - ر ويفني في كل حينٍ قرابه وكذلك ورد قول ابن الرومي‏:‏ أدرك ثقاتك إنهم وقعوا في نرجس معه ابنة العنب ريحانهم ذهبٌ على دررٍ وشرابهم دررٌ على ذهب وهذا تشبيه صنيع إلا أن تشبيه البحتري أصنع وذلك أن هذا التشبيه صدر عن صورة مشاهدة وذاك إنما استنبطه استنباطاً من خاطره وإذا شئت أن تفرق بين صناعة التشبيه فانظر إلى ما أشرت إليه ههنا‏:‏ فإن كل أحد التشبيهين عن صورة مشاهدة والآخر عن صورة غير مشاهدة فاعلم أن الذي هو عن صورة غير مشاهدة أصنع ولعمري إن التشبيهين كليهما لا بد فيهما من صورة تحكي لكن أحدهما‏:‏ شوهدت الصورة فيه فحكيت والآخر‏:‏ استنبطها ألا ترى أن ابن الرومي نظر إلى النرجس وإلى الخمر فشبه وأما البحتري فإنه مدح قوماً بأن خلق السماح باقٍ فيهم ينتقل عن الأول إلى الآخر ثم استنبط لذلك تشبيهاً فأداه فكره إلى السيف وقربه التي تفنى في كل حين وهو باق لا يفنى بفنائها ومن أجل ذلك كان البحتري أصنع في التشبيه‏.‏

وسأورد ههنا من كلامي نبذة يسيرة فمن ذلك ما كتبته من جملة كتاب إلى ديوان الخلافة أذكر فيه نزول العدو الكافر على ثغر عكا في سنة خمس وثمانين وخمسمائة فقلت‏:‏ وأحاط بها العدو إحاطة الشفاه بالثغور ونزل عليها نزول الظلماء على النور وهذا من التشبيهات المناسبة ثم لما جئت إلى ذكر قتال المسلمين إياه وإزالته عن جانب الثغر قلت‏:‏ وقد اصطدم من الإسلام والكفر ابنا شمام والتقى من عجاجتهما ظلام وعند ذلك أخذ العدو في التحيز إلى جانب وكان كحاجب على عين فصار كعين في حاجب وإذا تزعزع البناء فقد هوى وإذا قبض من طرق البساط فقد انطوى‏.‏

وهذا التشبيه في مناسبته كالأول بل أحسن‏.‏

ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان‏:‏ فقلت وما شبهت كتابه في وروده وانقباضه إلا بنظر الحبيب في إقباله وإعراضه وكلا الأمرين كالسهم في ألم وقعه وألم نزعه والمشوق من استوت صبابته في حالتي وصله وقطعه وما أزال على وجل من إرسال كتبه وإجمامها واشتباه لمها بإلمامها‏.‏

ومما جاء من هذا القسم في الشعر قول بكر بن النطاح‏:‏ تراهم ينظرون إلى المعالي كما نظرت إلى الشيب الملاح يحدون العيون إلي شذراً كأني في عيونهم السماح وهذا بديع في حسنه بليغ في تشبيهه‏.‏

وعلى هذا النهج ورد قول أبي تمام‏:‏ خلط الشجاعة بالحياء فأصبحا كالحسن شيب لمغرمٍ بدلال وهذا من غريب ما يأتي في هذا الباب وقد تغالت شيعة أبي تمام في وصف هذا البيت وهو ومن هذا القسم أيضاً قوله‏:‏ كم نعمةٍ لله كانت عنده فكأنها في غربةٍ وإسار كسيت سبائب لؤمه فتضاءلت كتضاؤل الحسناء في الأطمار وكذلك قوله‏:‏ صدفت عنه ولم تصدف مواهبه عني وعاوده ظني فلم يخب كالغيث إن جئته وافاك ريقه وإن ترحلت عنه لج في الطلب وعلى هذا الأسلوب ورد قول علي بن جبلة‏:‏ إذا ما تردى لأمة الحرب أرعدت حشا الأرض واستدمى الرماح الشوارع وأسفر تحت النقع حتى كأنه صباحٌ مشى في ظلمة الليل طالع وقد أحسن علي بن جبلة في تشبيهه هذا كل الإحسان‏.‏

وكمثله في الحسن قوله أيضاً في تشبيهه الحبب فوق الخمر‏:‏ ترى فوقها نمشاً للمزاج تباذير لا يتصلن اتصالا كوجه العروس إذا خططت على كل ناحيةٍ منه خالا ومن هذا القسم قول مسلم بن الوليد‏:‏ وعلى هذا الأسلوب ورد قول العباس بن الأحنف‏:‏ لا جزى الله دمع عيني خيراً وجزى الله كل خيرٍ لساني نم دمعي فليس يكتم شيئاً ووجدت اللسان ذا كتمان كنت مثل الكتاب أخفاه طيٌ فاستدلوا عليه بالعنوان وهذا من اللطيف البديع‏.‏

ويروى أن أبا نواس لما دخل مصر مادحاً للخصيب جلس يوماً في رهط من الأدباء وتذكروا منازه بغداد فأنشد مرتجلاً‏:‏ ذكر الكرخ نازح الأوطان فصبا صبوةً ولات أوان ثم أتم ذلك قصيداً مدح به الخصيب فلما عاد إلى بغداد دخل عليه العباس ابن الأحنف وقال أنشدني شيئاً من شعرك بمصر فأنشده‏:‏ ذكر الكرخ نازح الأوطان فلما استتم الأبيات قال له‏:‏ لقد ظلمك من ناواك وتخلف عنك من جاراك وحرامٌ على أحدٍ يتفوه بقول الشعر بعدك فقال أبو نواس‏:‏ وأنت أيضاً يا أبا الفضل تقول هذا ألست القائل‏:‏ ومن تشبيه المركب بالمركب قول البحتري‏:‏ جدةٌ يذود البخل عن أطرافها كالبحر يمنع ملحه عن مائه وهذا من محاسن التشبيهات‏.‏

وكذلك ورد قوله‏:‏ وتراه في ظلم الوغى فتخاله قمراً يكر على الرجال بكوكب وفي هذا البيت ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء فإنه شبه العجاج بالظلمة والممدوح بالقمر والسنان بالكوكب وهذا من الحسن النادر‏.‏

وكذلك ورد قوله‏:‏ يمشون في زغفٍ كأن متونها في كل معركةٍ متون نهاء بيضٌ تسيل على الكماة نصولها سيل السراب بقفرةٍ بيداء فإذا الأسنة خالطتها خلتها فيها خيال كواكبٍ في ماءٍ فالبيتان الأخيران هما اللذان تضمنا تشبيه المركب بالمركب وإنما جئنا بالبيت الأول سياقة إلى معناهما وهو من التشبيه الذي أحسن فيه البحتري وأغرب‏.‏

ومن هذا الباب ما ورد لبعض الشعراء في وصف الخمر فقال‏:‏ تهتز في الكأس من ضعفٍ ومن هرمٍ كأنها قبسٌ في كف مقرور وقد يندر للناظم أو الناثر شيء من كلامه يبلغ الغاية التي لا أمد فوقها وهذان البيتان من هذا القبيل‏.‏

ومن أغرب ما سمعته في هذا الباب قول الحسين بن مطير يرثي معن بن زائدة‏:‏ فتىً عيش في معروفه بعد موته كما كان بعد السيل مجراه مرتعا القسم الثالث في تشبيه المفرد بالمركب‏.‏

فمما ورد منه قوله تعالى ‏"‏ الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجةٍ الزجاجة كأنها كوكبٌ دريٌ يوقد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ ‏"‏ وكذلك قوله تعالى ‏"‏ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يومٍ عاصف ‏"‏ ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن استنجاداً فقلت‏:‏ وهو إذا استصرخ أصرخ بعزم كالشهاب في رجمه وهم كالقوس الممتلئ بنزع سهمه ويرى أن صريخه لم يخب وأنه إذا لم يجبه بالسيف فكأنه لم يجب فهو مغري جواده وحسامه ومسمع العدو صرير رمحه قبل قعقعة لجامه‏.‏

وكذلك أيضاً ما كتبته في كتاب إلى بعض الإخوان أذم الفراق فقلت‏:‏ والفراق شيء لا كالأشياء وصاحبه ميت لا كالأموات وحيٌ لا كالأحياء وما أراه إلا كنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة وما يجعل صاحبها في ضحضاحٍ منها إلا تواتر الكتاب التي تقيه بعض الوقاء وتقوم له وإن لم يسق مقام الإسقاء‏.‏

وأما ما ورد منه في الشعر فكقول أبي نواس‏:‏ إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفت له عن عدو في ثياب صديق وكذلك قول أبي تمام يصف قصيداً له‏:‏ خذها مثقفة القوافي ربها لسوابغ النعماء غير كنود كالدر والمرجان ألف نظمه بالشذر في عنق الفتاة الرود وكذلك ورد قول البحتري وهو من جملة قصيدته المشهورة التي وصف فيها الفرس والسيف وأولها‏:‏ أهلاً بذلكم الخيال المقبل فقال فيها من أبيات تضمنت وصف السيف بيتاً أجاد في تشبيهه‏:‏ وكأنما سود النمال وحمرها دبت بأيدٍ في قواه وأرجل فشبه فرند السيف بدبيب النمل سودها وحمرها وذلك من التشبيه الحسن‏.‏

وأما ما ورد منه مضمر الأداة فكقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن العزل فقال‏:‏ ‏"‏ هو الوأد الخفي ‏"‏ وهذا تشبيه بليغ والوأد‏:‏ هو ما كانت العرب تفعله في دفن البنات أحياء فجعل العزل في الجماع كالوأد إلا أنه خفي وذاك أنهم كانوا يفعلون بالبنات ذلك هرباً منهن وهكذا من يعزل في الجماع فإنما يفعل ذلك هرباً من الولد‏.‏

وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هو الوأدة الصغرى ‏"‏ وهذا من الحسن إلى غاية تغص لها العيون طرفها ولا ينتهي الوصف إليها فيكون ترك وصفها كوصفها‏.‏

ومما جاءني من ذلك فصل من كتاب ضمنته وصف القلم فقلت‏:‏ جدع أنفه فصار في الكيد قصيراً وأرهف صدره فصار في المضاء غضباً شهيراً وقمص لباس السواد وهو شعار الخطباء فنطق بفصل الخطاب ونكس رأسه وهي صورة الإذلال فاختال في مشيه من الإعجاب وأوحى إليه بنجوى الخواطر وهو الأصم فأفضى بما سمعه إلى الكتاب‏.‏

وهذه الوصاف غريبة جداً ومن أغربها ذكر قصير عند جذع الأنف‏.‏

وأما القسم الرابع وهو تشبيه المركب بالمفرد فإنه قليل الاستعمال بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة وليس ذلك إلا لعدم النظير بين المشبه والمشبه به وعلى كثرة ما حفظته من اِلأشعار لم أجد ما أمثل به هذا القسم إلا مثالاً واحداً وهو قول أبي تمام في وصف الربيع‏:‏ تريا نهاراً مشمساً قد شابه زهر الربا فكأنما هو مقمر فشبه النهار المشمس مع الزهر الأبيض بضوء القمر وهو تشبيه حسن واقع في موقعه مع ما فيه من لطف الصنعة‏.‏

ولربما اعترض في هذا الموضع معترض وقال‏:‏ إنك أوردت هذا القسم من التشبيه وذكرت أنه قليل وليس كذلك فإن تشبيه شيئين بشيء واحد كثير كقول أبي الطيب المتنبي‏:‏ تشرق أعراضهم وأوجههم كأنها في نفوسهم شيم فشبه إشراق الأعراض والوجوه بإشراق الشيم‏.‏

الجواب عن ذلك أني أقول‏:‏ هذا البيت المعترض به على ما ذكرته ليس كالذي ذكرته فإن أردت أن يشبه شيئان هما كشيء واحد في الاشتراك بشيء واحد ألا ترى أن نور الشمس مع بياض الزهر وهما شيئان مشتركان قد شبها بضوء القمر وأما هذا البيت الذي لأبي الطيب المتنبي فإنه تشبيه شيئين كل واحد منهما مفرد برأسه بشيء واحد لأنه شبه إشراق الأعراض وإشراق الوجوه بإشراق الشيم وهذا غير ما أردته أنا‏.‏

لكن ينبغي أن تعلم أن تشبيه المركب بالمفرد ينقسم قسمين‏:‏ أحدهما‏:‏ تشبيه شيئين مشتركين بشيء واحد كالذي أوردته لأبي تمام وهو قليل الاستعمال والآخر‏:‏ تشبيه شيئين منفردين وإذ ذكرنا أقسام التشبيه وبينا المحمود منها الذي ينبغي اقتفاء أثره واتباع مذهبه فلنتبعه بضده مما ينبغي اجتنابه والإضراب عنه على أنه قدمنا القول بأن حد التشبيه هو‏:‏ أن يثبت للمشبه حكم من أحكام المشبه به فإذا لم يكن بهذه الصفة أو كان بين المشبه والمشبه به بعد فذلك الذي يطرح ولا يستعمل والذي يرد منه مضمر الأداة لا يكون إلا في القسم الواحد من أقسام المجازي وهو التوسع وقد قدمت القول في ذلك في أول باب الاستعارة وضربت له أمثلة منها قول أبي نواس‏:‏ ما لرجل المال أمست تشتكي منك الكلالا فجعل للمال رجلاً وذلك تشبيه بعيد ولا حاجة إلى عادة ذلك الكلام ههنا بجملته لكن قد أشرت إليه إشارة خفيفة‏.‏

ومن أقبح ما سمعته من ذلك قول أبي تمام‏:‏ وتقاسم الناس السخاء مجزأ وذهبت أنت برأسه وسنامه وتركت للناس الإهاب وما بقي من فرثه وعروقه وعظامه والقبح الفاحش في البيت الثاني فإن غرضه أن يقول ذهب بالأعلى وترك للناس الأدنى أو ذهبت بالجيد وتركت للناس الرديء‏.‏

لا تسقني ماء الملام فإنني صبٌ قد استعذبت ماء بكائي وقيل إنه جعل للملام ماء وذلك تشبيه بعيد وما بهذا التشبيه عندي من بأس بل هو من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم وهو قريب من وجه بعيد من وجه‏:‏ أما مناسب قربه فهو أن الملام هو القول الذي يعنف به الملوم لأمر جناه وذاك مختصٌ بالسمع فنقله أبو تمام إلى السقيا التي هي مختصة بالحلق كأنه قال‏:‏ لا تذقني الملام ولو تهيأ له ذلك مع وزن الشعر لكان تشبيهاً حسناً لكنه جاء بذكر الماء فحط من درجته شيئاً ولما كان السمع يتجرع الملام أولاً أولاً كتجرع الحلق الماء صار كأنه شبيه به وهو تشبيه معنى بصورة وأما سبب بعد هذا التشبيه فهو أن الماء مستلذ والملام مستكره فحصل بينهما مخالفة من هذا الوجه فهذا التشبيه إن بعد من وجه فقرب من وجه فيغفر هذا لهذا ولذلك جعلته من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم‏.‏

وقد روي وهو رواية ضعيفة أن بعض أهل المجانة أرسل إلى أبي تمام قارورةً وقال ابعث في هذه شيئاً من ماء الملام فأرسل إليه أبو تمام وقال‏:‏ إذا بعثت إلي ريشة من جناح الذل بعثت إليك شيئاً من ماء الملام وما كان أبو تمام ليذهب عليه الفرق بين هذين التشبيهين وذاك أن الطائر إذا وهن أو تعب بسط جناحه وخفضه وألقى نفسه على الأرض وللإنسان أيضاً جناح فإن يديه جناحاه وإذا خضع واستكان طأطأ من رأسه وخفض من يديه فحسن عند ذلك جعل الجناح للذل وصار تشبيهاً مناسباً وأما الماء للملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه‏.‏

وأما التشبيه المضمر الأداة من هذا الباب فقد أوردت له أمثلة يستدل بها على أشباهه وأمثاله فإن لذكر المثال فائدة لا تكون الحد وحده‏.‏

فمن ذلك قول بعضهم‏:‏ ملا حاجبيك الشيب حتى كأنه ظباءٌ جرت منها سيحٌ وبارح وكذلك قول الآخر يصف السهام‏:‏ كساها رطيب الريش فاعتدلت له قداحٌ كأعناق الظباء الفوارق فإنه شبه السهام بأعناق الظباء وذلك من أبعد التشبيهات‏.‏

وعلى نحو منه قول الفرزدق‏:‏ يمشون في حلق الحديد كما مشت جرب الجمال بها الكحيل المشعل فشبه الرجال في دروع الزرد بالجمال الجرب وهذا من التشبيه البعيد لأنه إن أراد السواد فلا مقاربة بينهما في اللون لأن لون الحديد أبيض ومن أجل ذلك سميت السيوف بالبيض ومع كون هذا التشبيه بعيداً فإنه تشبيه سخيف‏.‏

وجرى على الورق النجيع القاني فكأنه النارنج في الأغصان وهذا تشبيه ينكره أهل التجسيم وإذا قسمت التشبيهات بين البعد والبرد حاز طرفي ذلك التقسيم‏.‏

وأبشع من هذا قول أبي نواس في الخمر‏:‏ كأن برانساً رواكد حولها وزرق سنانيرٍ تدير عيونها والعجب أنه يقول مثل هذا الغث الذي لا لاءمة بينه وبين ما شبه به ويقرنه بالبديع الذي أحسن فيه وأبدع وهو‏:‏ كأنا حلولٌ بين أكناف روضةٍ إذا ما سلبناها مع الليل طينها فانظر كيف قرن بين ورده وسعدانه لا بل بين بعره ومرجانه وقد أكثر في تشبيه الخمر فأحسن في موضع وأساء في موضع ومن إساءته قوله أيضاً في أبيات لامية‏:‏ وإذا ما الماء واقعها أظهرت شكلاً من الغزل لؤلؤات ينحدرن بها كانحدار الذر من جبل فشبه الحبب في انحداره بنمل صغار ينحدر من جبل وهذا من البعد على غاية لا يحتاج إلى بيان وإيضاح‏.‏

واعلم أن من التشبيه ضرباً يسمى الطرد والعكس وهو أن يجعل المشبه به مشبهاً والمشبه مشبهاً به و بعضهم يسميه غلبة الفروع على الأصول ولا تجد شيئاً من ذلك إلا والغرض به المبالغة‏.‏

فمما جاء من ذلك قول ذي الرمة‏:‏ ورملٍ كأرداف العذارى قطعته إذا ألبسته المظلمات الحنادس ألا ترى إلى ذي الرمة كيف جعل الأصل فرعاً والفرع أصلاً وذاك أن العادة والعرف في هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الأنقاء وهو مطرد في بابه فعكس ذو الرمة القصة في ذلك فشبه كثبان الأنقاء بأعجاز النساء وإنما فعل ذلك مبالغة‏:‏ أي قد ثبت هذا الموضع وهذا المعنى لأعجاز النساء وصار كأنه الأصل حتى شهبت به كثبان الأنقاء‏.‏

وعلى نحو من هذا جاء قول البحتري‏:‏ في طلعه البدر شيء من محاسنها وللقضيب نصيب من تثنيها وكذلك ورد قول عبد الله بن المعتز في قصيدته المشهورة التي أولها‏:‏ سقى المطيرة ذات الطل والشجر فقال في تشبيه الهلال‏:‏ ولما شاع ذلك في كلام العرب واتسع صار كأنه هو الأصل وهو موضع من علم البيان حسن الموقع لطيف المأخذ‏.‏

وهذا قد ذكره أبو الفتح بن جني في كتاب الخصائص وأورده هكذا مهملاً‏.‏

ولما نظرت أنا في ذلك وأنعمت نظري فيه تبين لي ما أذكره وهو‏:‏ أنه قد تقرر في أصل الفائدة المستنتجة من التشبيه أن يشبه الشيء بما يطلق عليه لفظة أفعل‏:‏ أي يشبه بما هو أبين وأوضح أو بما هو أحسن منه أو أقبح وكذلك يشبه الأقل بالأكثر والأدنى بالأعلى‏.‏

وهذا الموضع لا ينقض هذه القاعدة لأن الذي قدمناه ذكره مطرد في بابه وعليه مدار الاستعمال وهذا غير مطرد وإنما يحسن في عكس المعنى المتعارف وذاك أن تجعل المشبه به مشبهاً والمشبه مشبهاً به ولا يحسن في غير ذلك مما ليس بمتعارف ألا ترى أن من العادة والعرف أن تشبه الأعجاز بالكثبان فلما عكس ذو الرمة هذه القضية في شعره جاء حسناً لائقاً وكذلك جاء فعل البحتري فإن من العادة والعرف أن يشبه الوجه الحسن بالبدر والقد الحسن بالقضيب فلما عكس البحتري القضية في ذلك جاء أيضاً حسناً لائقاً ولو شبه ذو الرمة الكثبان بما هو أصغر منها غير الأعجاز لما حسن ذلك وهكذا لو شبه البحتري طلعة البدر بغير طلعة الحسناء والقضيب بغير قدها لما حسن ذلك أيضاً وهكذا القول في تشبيه عبد الله بن المعتز صورة الهلال بالقلامة لأن من العادة أن تشبه القلامة بالهلال فلما صار ذلك مشهوراً متعارفاً حسن عكس القضية فيه‏.‏